كنت انتوى أن أكتب عن قارئ آخر في مثل هذا اليوم الأغر ولكن تحولت وجهتى حيث لا إرادة بعدما شهدت بنفسي فرحة البشر بقدوم صوتك سيدي صادق الإحساس، شهيد القرآن، فلم يفصله عن التبتل والخشوع شئ سوى بدأ التلاوة حتى يهيم في ملكوت الله وتسبح معه أرواح المحبين فتراه وكأن قلبه ينزف خشوعا يتألم لمعاناة المسلمين ويفرح لفرحهم.
الشيخ كامل يوسف البهتيمي
يتملكه إحساس الأسى وينتابه شعور الحسرة عندما يمر على النص القرأني المهيب وعبرة الظالمين فتراه باخعا قلبه على حال الكافرين يود لو أنهم تابوا ورجعوا إلي الله، ثم ترى على وجهه ملامح الفرح حينما يمر على آيات النعيم، وكأنه ذاهب إلي الجنة خلال استرساله آيات البشرى.
هذه هي الحالة الشخصية التى قدمها الشيخ محمد زكي يوسف البهتيمي للسميعة خلال مسيرته القرأنيه التى لم تعمر طويلا – ابن مدينة بهتيم – ونجم نجوم دولة التلاوة الذي يشع نور القرآن من وجهه، فتجده يزداد من الزهد كما لو أنه تمنى أن يكون من السابقين الأولين الذين رضى الله عنهم .
لم تكن تلك غايته فقط امتاع الجماهير بموهبته الرنانة على أسماع الزمان ولكن تيقن بحقيقة الحياة الفانية، فزاد إحساسه بالزهد والورع حتى تعايش مع القرآن بروحه وجسده فطوع كافة أعضاءه للنص القرآني، وما يعقبه من وعد بالجنة أو وعيد وتحذير من النيران .
له من قِصر الحياة ما تعجب منه حينما تجد إرثه من حب البشر فهو لا أشك أجمل وجه عرفته السرادقات، واشجى صوت عرفته الميكروفنات، عُرف بشخصيته الفريدة حيث التواضع كان رأس ماله حب الناس، لا يخيفه سوى شعوره بإحساس الورع ولا يريد شئ سوى تقوى الله، فصدق الله أن يقرأ كتابه بكل ما أوتي من قوة واحساسه وصدقه الله بحب السميعة .
جمهور طويل عريض لا يختلف عليه رغم اختلاف ثقافتهم
خمسة وخمسون عاما على رحيل صاحب التقلبات المزاجية والشخصية الغامضة، محمد ذكي يوسف البهتيمي، يقولون هزمه المرض، ولكن في الحقيقة هزم هو الحياة بأسرها، لم تكن المعطيات تشير بظهور تلك النابغة في أدغال ريف القليوبية، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً يذهب إليه الإذاعي الشهير محمد فتحي ليسمعه في عزبة إبراهيم بك قبل أن ينبهر بأشياء لم يكن يتخيل وجودها في الحياة لولا أن منّ الله عليه وسمعها حقاً .
لم يتخيل أحد وجود تلك الظاهرة التى ستُسجل عن ما قريب اِسمها في سجل الموهوبين وأصحاب المهارات الخاصة، فخرج يطل علي أذواق الكون بطلعته البهية حيث أعطاه الله قدرات تفوق تخيلاتنا السمعية، وكذلك الحسية بمراحل كبيرة، ولعل أشهرها القدرة على النقيدين الضحك والبكاء، يستطيع أن يرسم فوق ملامح وجهك البسمة، وكذلك الحزن والبكاء، فهو من يشعرك بأحداث الآخرة حيث يصور لك المشهد كأنه هو فما تستطيع أن تتمالك نفسك من البكاء مما سمعت من الحق، وكأنه يستشعر قول الله تعالى قولاً وفعلا ويخرون للإذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ..وإذا تتلى عليهم أيات الرحمن خروا سجداً وبكيا ….هكذا اقتضت المعايير الإلهية في تكوين الشخصية الغامضة للشيخ كامل يوسف البهتيمي بين رسم الأمل وحسرة التقصير فلا يجد وسيلة يعبر بها الشيخ عن مّا قد آلمك إلا دموع العينين.. فلا أنت تقوىٰ علىٰ جفاء قلبك كما ليس لديك من القدرة أن تخفي دموع عينيك حال سماعه..
أما عن إمكانياته الصوتية والفنية
فهذا ما سوف يضنينا تعليقاً وكتابة فإذا ذهبنا أكاديميا فسوف نجد أن صوت الشيخ كامل يوسف البهتيمي ينتمي لمجموعة البريتون الثاني أي متوسط الغلظة، ولكن الشيخ لا يكيفه أن يكون متمرداً على أسلوب التلاوة المعتاد في عصره، بل جعل لنفسه أسلوب خاص، مما استطاع خلاله أن يكون له قاعدة جماهيرية هائلة بل ذهب لأبعد من ذلك من حيث التمرد على صوته حينما يصعد إلى مناطق جوابات حادة أو شبه مستحيلة علمياً مثل منطقة التينور، ومع ذلك عندما يستدرج بصوته إلي أدنىٰ درجات القرار فلا تجد أي خلل ولو بسيط أما عن مساحته الصوتيه من حيث القوة والفخامة فيصل صوته إلي إثنين أُكتاف صوتي ونصف الأكتاف .
أما إذا تعرضنا للناحية العلمية من حيث المقامات التي كان يستخدمها فسوف نجد أن الشيخ كامل أجاد التعامل مع كافة المقامات، وهذا بالدليل وليس من الناحية الهوائية، ورغم ذلك كان يميل أكثر إلي العائلة الحجازية بداية من مقام الحجاز وفروعه الأصلية، مثل الشهيناز والحجاز كار وبصفةٍ خاصة الشهيناز الذي أجاد فيه الشيخ كامل في مناطق الجوابات المتنوعة رغم صعوبة التداول فيه بصفة استعراضية، فكان عندما يتطرق إليه أي قارئ قديما يمر عليه مرور الكرام.. أمّا عمنا الشيخ كامل كان يقدم فيه عرضاً رائعاً ومن التوصيف العرفي لجنس أصل هذا المقام يشتمل على عدد 2 تون موزعة بصورة علمية كالآتي نصف ثم واحد ونصف ثم نصف وهذه الأبعاد الثلاثة عبارة عن بعدين يسميان أبعاد ناقصة.. وتسمي بالمصطلح الموسيقى بيمول وبُعد زائد يسمي بالدييز
أما البُعدين الناقصين فيعبران عن الحزن والبُعد الزائد يعبر عن عن الإنذار والوعيد .. ويلاحظ جليا ً أن الشيخ كان يستخدم صوته في هذه الدرجات بصفة الجواب، فيصبح الأمر ليس سهلاً كما يعتقد البعض، فحين يمر بصوته على المنطقة الزائدة أي التون ونصف يظهر في صوته علامات الحدة وكأنه يشجب أو يستنكر أو يعترض ثم يمر على النصف تون الاعلي فيظهر الحزن ثم ينهي الجملة النغمية بركوز المقام ركوز فعلي من حيث التصنيف والتحقيق، فيظهر هنا النصف تون الأخير وكأنه صرخة تخلع القلب من مكانه.
ومن هنا استطيع أن أُجزم أنه قارئ ليس عاديا علي الإطلاق بل كان واعظا يحقق قول الله تعالى فيه الذين اتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته .
أما عن مخارج الحروف فهو أفضل من أجاد في مخارج حروف التفشي خصوصاً حرف الشين، وكذلك الهمس في حرف السين، أما من حيث الترقيق والإلتزام بالمدود فهو أيضا أفضل من رقق حرف الراء خصوصا في رواية ورش عندما يأتي بعد حرف الياء أو يكون الحرف مكسور، ولعل من لا يدرك الموهبة الحقيقة للشيخ كامل من حيث الإبداع يصعب عليه تخيل تلك الميزات، لأن السمع موهبة لا تقل جمالا عن موهبة الإبداع للقارئ ذاته .
أما عن تفاصيل حياته وبالتحديد الليلة الأخيرة فكانت تفاصيل درامية عجيبة الشكل حيث كان مدعوا فضيلته للتلاوة في أحد السردقات في سوق الخضار بروض الفرج، وكان متقاضي يومها مبلغ 165 جنيها وهو يوم الاربعاء الخامس من فبراير لعام 1969 وذهب الشيخ للتلاوة وتجلي عليه ربنا رغم شدة مرضه، فأبدع أيما إبداع وكأنه يودع جماهيره، وكان ينظر إلى السماء والنخيل يودع فيه صفاء الدنيا.. فشمس العمر أوشكت علي الغروب وما هي إلا ساعات قليله ويدرج الشيخ في أكفان القدر فهل أبكيت حقا قلوب العذارى فقط أم أبكيت كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أم بكت عليك قلوب السكالى حزناّ وضنا على فعلته بقولبهم المشبعة بالألم فقد حال بين عاطفتنا وخيالك الموجع حزناً جمال أحساسك حين تضع بصمتك الحسية فوق أوجاع قلوبنا حال سماعك وكأنك تمحوا لدينا بصوتك شعور الحسرة كما يمحوا نور الصبح مداد الظلام .
يا كامل عليك سلام الله وقفا فإني رأيت الحر الكريم ليس له عُمُر …فإذا ما شجرات الأصيل جُزت أصولها ففي أي فرع يوجد الورق النضروا .
فرحمة الله عليك في الأولين والأخرين وجزاك خيراً على ما آشبعتنا به من خير متاع الدنيا وسماع أفضل الكلم .
اقرأ هنا سلسلة مقالات تامر البهتيمي.. اضغط هنا