أبو اليتامى وأبو مختار هكذا عرفه شيوخ السمع في عقود الفن الكلاسيكي القديم والغير مقيد بقاعدة نغمية معينة والتى أحدثت حالة خاصة من المتعة والجمال ما كان لنا أن نتخيلها لولا أن من الله علينا بسماع ما تبقى منها من أصوات، ومن هنا فلا نستطيع أن نجزم كيف كانت تدار الدولة القرأنية القديمة بصورة أشد وضوحا مما بعدها، ولعل حديثناً اليوم نقطع فيه شوط ً كبيراً تجاه هذه المدرسة الفريدة فإذا ذهبت لعنوان المدرسة لعلمت مدى صعوبة الوقوف على تفاصيلها بشكل كاف وهى مدرسة الشيخ محمد سلامه.
فهو ولا فخر أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ كامل والمنشاوي والزامل والبرعي ورمضان وغيرهم الكثير، ولعل مايثيرنا جدلاً ربما كان واسعاً هي شخصيته العنيدة وغلظة طباعة، مما آثر على تاريخه بصورة كبيرة جداً فهو كان له من وجهات مختلفة في التعامل مع الآخرين لا يتكلم كثيرا ولا يرد إلا إذا ندبه شخص آخر، ولكن كان يرد ردود صعبة، مما جعل البعض يتلاشي التعامل معه خوفاً من بطش تصرفاته.
وقد رجح أكابر أهل السمع والمقربين منه سبب غلظة شخصيته إلي عهد قديم عندما شارك في ثورة سعد زغلول، وأصيب برصاصة في فكه أحدثت له عقدة شخصية انعكست على تصرفاته بشكل ملحوظ فكان يرفض أشياء كثيره في حياته حتى أنه رفض الالتحاق بالاذاعة قبل عام ١٩٤٨ وكان يظن أنه لا يجوز لقارئ القرآن أن يقدمه عبر اذاعات أو خلافه.
فقد وصل الأمر إلي استماعه لفتوى بعض أساتذة الأزهر بإباحة إذاعة صوته عبر ميكروفون الإذاعة، ومن هنا التحق الشيخ محمد سلامه بالإذاعة، ولكنه رغم قبوله ونجاحه المبهر في ليالي الاذاعة لم يعمر بها طويلاً، وذلك يرجع أيضا كما ذكرت سالفا لعجيب تفكيره وأسلوب ثقافته الدينية، وذلك عندما ذهب إلي خزينة الاذاعة ليتقاضي أول راتب شهري مقابل تعاقده معها، فوجد نفسه واقف في طابور طويل وعريض يشتمل علي مطربين وفنانين ومغنيات.
بل وجد أيضاً أن راتب المطربين في أول الصف يكاد يكون أضعاف مرتب قارئ القرآن عشرات المرات، مما أثار حفيظته غضبا وترك الطابور والإذاعة دون عودة مرة أخرى، فحزن المسؤلوون عن الإذاعة مما حدث، وحاولوا مع الشيخ العودة مرة أخرى، لكن دون جدوى حتى قالت الإذاعة – عوضنا على الله فيك يا شيخ سلامه – وظل الشيخ سلامة، يذهب للحفلات والمناسبات الخاصة، ويؤسس مناهج التلاوة بفنون وموهبة تكاد يشهد لها شعاع الشمس.
أما عن خامته الصوتية فهو ينتمي إلي الفصيلة أكثر شيوعاً وهى البريتون، ولكن من المستوي الأخير اي شديد الغلظة يحتوى صوته فيها على عرض كبير من المساحة بحيث أنه يستطيع أن يعرض صوته بكامل قواه وفرادته بداية من الٕاستهلال ذهباً بأول الطبقات الإستعراضية للصوت والتي يأخذ فيها حجم الصوت قدر أكبر مما قبلها حتى يصل للقمة الصوتية من حيث القوة والمساحة دون أن يشعرك بخلل أو فجوة أو مشكلة في تونه الصوتي لا من الأكتاف الأول ولا النصف الثاني أو حتي عندما يصل للمرحلة الأعلى بالنسبة للقوة التي يتمتع بها صوته، وهي تكاد تفوق الاثنين أكتاف ولا يكون ذلك إلا في مرحلة معينة من مراحل التلاوة ربما كانت آيات معبرة تفاعل معها الجمهور بشكل كبير ومدهش.
ويحضرني مثال الآن على ذلك – عندما كان الشيخ يقرأ في سورة غافر وجاء عند قوله تعالى (لمن الملك اليوم)، وظل الشيخ يرددها مرات ومرات مع تفاعل جمهور سيدي أبو العلا ثم جاء بالجواب الجامع للآية كاملة بالمعنى، ثم عاود الهبوط بصوته إلي درجة ثم درجتين حيث التعبير للمعني والتشويق لما بعده، ويعتبر الشيخ سلامه من أكثر المقرئين على مدار التاريخ الذي كان يحظي بشعبية كبيرة خصوصاً قبل ظهور الشيخ مصطفي إسماعيل حتى وبعد ظهوره، فهو يمتلك قاعدة جماهيرية هائلة في وقت كان يعز فيه معطيات التكنولوجيا والأجهزة الحديثة.
ورغم شخصيته العنيدة والصعبة فكان يحب الشيخين البهتيمي والمنشاوي فكان عندما يكلمه شخص ويقول له: (أنا بحب تلاميذك يا شيخ سلامه) فكان يرد عليه قائلا: (كامل ولا المنشاوي)، وظل الشيخ سلامه يقرأ القرآن حتى أن تجاوز التسعين عام، ورحل عن عالم الفناء إلي عالم البقاء عن عمر يناهز أثنين وتسعين عام، رحل ابن مدينة مسطرد محافظة القليوبية، تلك المحافظة التي امتعت أجيال عديدة، وقدمت أجمل أنواع الفن والتجويد في العصر القديم وكذلك الحديث – رحم الله الشيخ محمد سلامه وجزاه خير الجزاء لأمانته وغيرته على كتاب الله.