تردد المشرع المصري في الأخذ بفكرة إجبار المقبلين علي الزواج بإجراء الفحص الطبي الإجباري قبل أتمام الزواج فجاء ذلك في البداية علي شكل شرط لتوثيق العقد ، فصدرت في عام 1929 تعليمات توجب علي محرري وثائق الزواج أن يحصلوا من راغبي الزواج علي إقرار كتابي بخلوهم من الأمراض المعدية ، وتقرر ذلك بخطاب صادر من وزارة الصحة إلي وزارة العدل في 13 فبراير 1929 ، ونفذ بمنشور من وزارة العدل للمحاكم الشرعية في 16 مايو سنة 1929 .
وإن كان في رأينا أن هذا المنشور لم يكن له فاعلية ملموسة ؛ لأنه لا يتصور عقلاً أن يقر أحد الزوجين بإصابته بمرض معدي يمنع عقد القران ، و قد يلجأ إلي إبرام العقد بغير طريق المأذون بأن يتفق الزوجان علي الزواج ثم ترفع الزوجة دعوى شرعية بالنفقة ويقر الزوج بزواجها بقصد إثبات الزواج رسميا بحكم قضائي دون وثيقة المأذون .
ولذلك كانت هناك محاولات في السابق لإصدار تشريع يتضمن ذلك إلا أنه لم يكتب لها النجاح، فقد عرضت اقتراحات منذ بداية التسعينات علي مجلس الشعب بمشروع قانون يجعل الفحص السابق علي الزواج إلزامياً ، تفادياً لانتشار عدوي الأمراض التي تنتقل عن طريق المباشرة الجنسية، ولكن هذه الاقتراحات رفضت بحجة مساسها بالخصوصية ، ووضعها عقبات أمام فرص الزواج بإضاففتها شرطاً جديداً لانعقاد الزواج لم يرد في الشريعة الإسلامية التي هي المصدر الرئيسي للتشريع في مصر .
إلا أنه من المسلم به وجود إرهاصات تتضمن الإلزام بهذا الفحص مثل القرار رقم 739 لسنة 1977 الصادر من وزير الحكم المحلي بإصدار لائحة نظام العمل بمكاتب فحص الراغبين في الزواج ، وبناء علي ذلك تم أنشاء مكاتب لعرض الراغبين في الزواج بالمستشفيات العامة إكلينيكياً وإجراء جميع الفحوص المعملية لهم بناء علي طلبهم وذلك نظير مبلغ معين بالإضافة إلي قيمة التحاليل الطبية والأشعة والدواء إن لزم الأمر ويعطي للمتقدم بعد فحصة واثبات صلاحيته للزواج شهادة تفيد ذلك .
والقرارات السابقة التي تتضمن وجوب الفحص الطبي قبل أتمام الزواج وإن كانت تفتقر إلي الجزاءات التي يمكن أن توقع علي مخالفيها، حيث لا إلزام فيها ، إلا إنها جاءت كشرط لتوثيق عقد الزواج ، إلا أن هذه القرارات جاءت متوافقة مع وجهة نظر بعض الفقه المصري الذي يري أن المجتمع المصري بحاجة إلي قانون يعمم الفحص الإجباري لراغبي الزواج لإنجاب أطفال أصحاء وحماية للأجـيال القـادمة مـن أمـراض الـدم وغـيرها من الأمراض .
ونفاذا لذلك تضمن القانون رقم 143 لسنة 1994 في شأن الأحوال المدنية في الفقرة الثانية من المادة رقم 31 مكرر إنه يشترط لتوثيق العقد أن يتم الفحص الطبي للراغبين في الزواج للتحقق من خلوهما من الأمراض التي تؤثر علي حياة أو صحة كل منهما أو صحة نسلهما وإعلامهما بنتيجة هذا الفحص ويصدر بتحديد تلك الأمراض وإجراءات الفحص وأنواعه والجهات المرخص لها به قرار من وزير الصحة بالاتفاق مع وزير العدل .
ومن جهة أخري فقد أصدر وزير العدل القرار رقم 6927 لسنة 2008 بتعديل بعض أحكام لائحة المأذونين فنص في مادته الأولي علي إنه علي المأذون قبل توثيق العقد الإطلاع علي الشهادات الطبية التي تثبت توقيع الفحص الطبي علي الزوجين وفقاً لقرار وزير الصحة رقم 338 لسنة 2008 وإثبات إرفاقها بالوثيقة .
وكان قد صدر قرار وزير الصحة والسكان رقم 338 لسنة 2008 بتاريخ 4/8/2008 والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 12/8/2008 بشأن إجراء الفحص الطبي الإجباري للراغبين في الزواج علي كافة أجزاء الجسم شاملاً تقييم الحالة العقلية لكل منهما وذلك للتحقق من خلوهما من الأمراض التي تؤثر علي حياتهما أو صحتهما أو صحة نسلهما كشرط لتوثيق عقد الزواج ، وتضمن القرار الجهات التي تقوم بإجراء هذا الفحص الإجباري ، وكذلك المبلغ المالي الذي يتكلفه الفحص ، حق الطبيب الفاحص في إجبار الراغب في الزواج علي عمل فحوصات إضافية .
ولقد أخذت التشريعات العربية المقارنة بهذا النهج ، فكان موقف المشرع اللبناني معتنقاً لذات الفكرة ، ففرض بمقتضي المرسوم رقم 78 بتاريخ 9/9/1983 المعدل بالقانون رقم 334 بتاريخ 18/5/1994 علي كل طالب أو طالبة زواج أن يتحصل قبل إجراء عقد الـزواج علي شهادة طبية لا يعود تاريخ صدورها إلي أكثر من ثلاثة أشهر، وتشمل الشهادة الطبية نتيجة الفحوصات التقريرية والمخبرية والإشعاعية للأمـراض التي يحـددها قرار يصـدر عن وزير الصحة العامة بناء علي اقتراح مدير الصحة العامة .
وكذلك موقف المشرع البحريني الذي اعتنق نفس النهج فأصدر القانون رقم 11 لسنة 2004 بشأن الفحص الطبي للمقبلين علي الزواج من الجنسين حتي يتم توثيق زواجهما .
نري أن الفحص الإجباري يجد ما يبرره في حالة انتشار الأمراض المعدية، وعلي الأخص الخطير منها ؛ من أجل وضع السياسة الصحية المناسبة لمكافحة انتشار العدوى، واتخاذ الإجراءات الضرورية للدفاع عن الصحة العامة طالما أن هذا الفحص قد جاء متوافقاً مع متطلبات خصوصية الفرد التي كفلها القانون .
ولا تعارض في ذلك مع ضرورة توافر الرضاء في الأعمال الطبية، إذ أن الفحص المقصود هنا هــو ما يصاحب الحالات الحرجة والضرورية التي لا تتحمل انتظار توفـير شرط الرضاء ، ومن جهة أخري فإن هذا الفحص يعد من ضروريات الحفاظ علي الصحة العامة الواجب توافرها لكل أفراد المجتمع ؛ لذلك فإن مصلحة الجماعة تسمو علي مصلحة الفرد ؛لأنه في هذه الحالة يكون هناك مصلحة أولي بالرعاية ، وهي مصلحة المجتمع ، ومن ثم تقدم علي غــيرها .
حالات الفحص الطبي للزواج
ولم يكن الفحص الطبي أمراً مستحدث ، فغالبية الدول تأخذ بمبدأ الفحص الاختياري في جميع المجالات وبالنسبة لكافة الأشـخاص إلا إنها تقرر علي سـبيل الاسـتثناء الفحص الطبي الإجباري في حالات معينة ، ففي فرنسا يكون الفحص وجوبي وإجباري في كل حالات التبرع بالدم، أو بالسائل المنوي، أو بالأعضاء البشرية ، وإثبات البنوة .
وفي مصر أيضاً نرصد حالات يكون فيها الفحص الطبي فيها إجباري ويتم دون الحصول على رضاء الشخص أو دون علمه، كما في حالات الالتحاق ببعض الوظائف ، أو الأقدام علي الزواج ، أو حالات السفر للخارج ، أو التبرع بالدم ، وفي حالات علاج مدمني المخدرات وعلاج بعض الأمراض مثل الأمراض التناسلية والزهرية ، بالإضافة إلى فحص ذوى الخطورة الإجرامية الخاصة ، وبعض الفئات الأكثر تعرضاً من غيرهم لخطر انتقال العدوى إليهم .
ولا تعارض بين إقرار الفحص الإجباري إذا تم وفقاً للشروط التي تضمن حماية الحياة الخاصة وبين النصوص الواردة في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ؛ فلا تعد القيود التي يقررها القانون والتي تعتبر ضرورية لحماية الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق وحريات الآخرين تدخلاً تعسفياً في الحياة الخاصة .
ومن هذا المنطلق فإن المادة 12 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تقرر حق كل فرد فى المجتمع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، وتدعو الدول إلى اتخاذ ما هو ضروري من أجل :- ….. (جـ) “الوقاية من الأمراض المعدية والمتفشية والمهنية وغيرها ومعالجتها وحصرها”. وقد يكون من التدابير الضرورية للوقاية من الأمراض المعدية تقرير الفحص الإجباري في حالات على سبيل الاستثناء ومن دون تعسف أو مبالغة ، فصرامة الحق في السرية والخصوصية للأفراد ، لا يجب أن يقف عقبة أمام مكافحة انتشار العدوى .
وفي الحقيقة فإن الفحص الطبي كاد أن يكون أمراً واقعاً في حالات عديدة ، ومنها ما يلي :
1- الفحص الإجباري في الأحوال التي تتم جبراً ، كحالة محترفي التبرع بالدم وذلك ما نظمه المنشور الصادر عن وكيل وزارة الصحة للشئون الوقائية بتاريخ 15/2/1988 ، ويكون بنك الدم ملتزم قانوناً بإجراء دراسة اللقاح لكل وحدات الدم المجمعة قبل تسليمها لمنشاّت نقل الدم علاوة علي ذلك ،وتكون بنوك الدم خاضعة للقواعد القانونية حول المسئولية في حالة التلوث من الدم الذي سلمته .
2- الفحص الإجباري الذي يتم بدون علم الشخص كما في حالة متعاطي المخـدرات المعالجين في مراكز العلاج من الإدمان أو في العيادات النفسية .
3- الفحص الإجباري للأشخاص المعرضين للإصابة وهم الأشخاص المعتقلين الذين يعالجون من مرض تناسلي لاسيما المدانون في قضايا الآداب والدعارة، وتعاطي المخدرات، والأجانب القادمين من البلاد الأفريقية بقصد الإقامة في مصر أكثر من شهر واحد أو من بلاد ترتفع فيها نسبة الإصابة بالأمراض المعدية إذا كان يجب عليهم الإقامة في مصر أكثر من شهر واحد والأجانب المعتقلون في السجون .
4- الفحص الإجباري للأشخاص المعرضين للإصابة بالعدوي وهم المصابون بنزيف الدم والأشخاص الذين اخذوا دماً في الخارج والمرضي الذين يعانون من أمراض مزمنة كأمراض السكر وضغط الدم ،أوالمصابون بحمي طويلة لم يتم تشخيصها أو المصابون بفشل كلوي الذين خضعوا لتحليل وضعي، أو الأشخاص الذين اتصلوا بمصاب أو حامل للمرض أو خالطوه .
5- الفحص الإجباري للشخص في حالات الإثبات الجنائي عند الإتهام في جريمة معينة ، فيجـبر الشـخص علي تحليل دمـه في حـالة القـبض عليه وهو في حالة سكر ، فإذا كان أخذ عينة الدم من الشخص فيه مساس بسلامة الجسم إلا أنه في هذه الحالة يحمي مصلحة أولي بالرعاية وهي معرفة إذا كان الخطأ في جانب المتهم أم لا ؟ أي الوصول للحقيقة بإشراف طبيب حتي لا يكون الفحص مؤذياً .
6 – الفحص الإجباري عند التقدم للحصول علي رخصة قيادة أو وظيفة ، فيتم أخذ عينة من بول الشخص حال تقدمه للحصول علي رخصة ، وتجدر الإشارة إلي إنه وفقاً للمستقر في قضاء محكمة النقض أن أخذ عينة من بول الطاعن حال تقدمه للحصول علي رخصة مهنية لا يعد تفتيشاً بالمعني الذي يقصده المشرع بإعتباره عملاً من أعمال التحقيق يهدف إلي الحصول علي دليل من الأدلة ، ولا تملكه إلا سلطة التحقيق أو بإذن سابق منها ، وإنما هو إجراء إداري لا ينبغي أن يختلط مع التفتيش القضائي ولا يلزم لإجرائه أدلة كافية أو إذن سابق من سلطة التحقيق ؛ الأمر الذي يكون معه فرض الفحص الطبي في حالة التقدم لوظيفة معينة أو رخصة معينة يكون أمراً طبيعياً لمقتضيات الوظيفة أو ضرورات المهنة .
ومما تقدم نثمن مسلك المشرع المصري بالاهتمام بهذا الأمر وإصدار قانون مستقل ينظم الفحص الطبي السابق علي الزواج علي أن يتضمن القواعد التي تحقيق الهدف منه ، ويتفادي أي مساوئ يمكن أن تعرقل إيجابياته .