نشر مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية رسالة بحثية للدكتور محمد بدري عيد تحت عنوان مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج في عهد بايدن.
وقال الباحث في مقدمة دراسته انه ما بين يناير 1980م حين أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر مبدأه لحماية الخليج بكلِّ وسيلة ضرورية بما فيها القوة العسكرية، من أي محاولات خارجيَّة للسيطرة عليه، وبين تواتر تقارير غير رسمية في إبريل 2021م، عن عزم إدارة الرئيس جو بايدن تقليص الوجود العسكري لواشنطن في المنطقة، تبرزُ تساؤلاتٌ منطقيَّة عدَّة وتثور مخاوفُ مشروعة كثيرة في هذا الشَّأن.
ولعلَّ في مقدِّمة هذه التَّساؤلات ما يلي:
– ما دوافع الإدارة الديمقراطية الجديدة للإقدام على هذه الخطوة؟ وإلى أي مدى قد يمثِّل ذلك انقطاعًا عن استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الخليج خلال العقود الأربعة الأخيرة؟
– وهل يعني ذلك تراجع أهمية وتراتيبة الخليج العربي على قائمة الأولويات الأمنية الأمريكية؟
– وما تداعيات تقليص الوجود العسكري الأمريكي المحتمل على ركائز الأمن في الخليج؟ وكيف ستتأثر ترتيبات الأمن الوطني والجماعي في المنطقة بهذا التطور الذي يلوح في الأفق؟
– وأخيرًا، ما الخيارات الممكنة المتاحة أمام دول مجلس التعاون الخليجي للتعاطي المستقبلي الفعَّال والكفء مع تداعيات هذه الخطوة الأمريكية المرتقبة؟
تأسيسًا على ذلك، يجتهد تقدير الموقف هذا في استشراف مستقبل الوجود العسكري للولايات المتحدة في الخليج العربي، ودوافع الانسحاب المحتمل للقوات الأمريكية من المنطقة، والتداعيات المتوقَّعة لهذا الانسحاب في حالة حدوثه، وصولًا إلى تقديم مقترحات الحركة الاستراتيجيَّة لدول مجلس التعاون الخليجي من أجل تعاطي فعَّال مع هذه الخطوة متى ما حدثت، سواء في المستقبل المنظور المتوسط أو البعيد.
وبالنظر إلى قلة الدِّراسات الخاصَّة بالأمن في الخليج العربي، وندرةِ تلك الدراسات التي تعالج مرتكزات البيئة الاستراتيجيَّة للمنطقة والترتيبات الأمنية بها؛ يأملُ الباحث من جهة أولى أنْ تشكِّلَ هذه الورقة الموجزة إسهامًا أكاديميًّا وعلميًّا يثري الأدبيَّات السياسية في هذا المجال، وأنْ تمثِّلَ من جهة ثانيةٍ إضافةً حقيقيَّةً إلى المكتبة الخليجيَّة عمومًا والمكتبة الكويتيَّة على وجه الخصوص فيما يتعلق بدراسات الأمن وترتيباته في منطقة الخليج من المنظور الاستراتيجي الشَّامل، وأن تُعين من خلال استنتاجاتها وتوصياتها الجماعة البحثيَّة الخليجيَّة وصناع القرار على إرساء دعائم نظام أمنى خليجي فعَّال ومرن، ذلك النِّظام الذي واجهت محاولات إرسائه خلال العقود الماضية صعوبات جمَّة.
أولًا- البُعْد الدَّولي لأمن الخليج العربي:
نظرًا لأهميته الاستراتيجية والاقتصادية حظيت منطقة الخليج العربي بأهمية محوريَّة في الاستراتيجية الدولية حتى طغت أهميتها على مناطق أُخرى اعتُقِدَ في الماضي أنَّها تتقدَّم عليها بمقاييس الأمن والمصالح العُليا للقوى الكُبرى في العالم.
وقد برز هذا الاهتمام بشكلٍ كبيرٍ في أعقاب الانسحاب البريطاني من الخليج في أواخر عام 1971م، وتعاظم الاهتمام الدولي بالمنطقة في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973م حين اِستُخدِمَ النَّفط كسلاحٍ وورقةٍ للضَّغط السياسي للمرة الأولى في العلاقات الدوليَّة.
ومنذُ ذلك الوقت، لم يعد أمن الخليج قضية محليَّة تخصُّ دوله فحسْب، بلَ أصبحَ له بُعد دولي واضح، أخذ في التوسع والازدياد بمرور الزمن وصولًا إلى وقتنا الحاضر، حيثُ ارتبط أمن الخليج في بُعْده الدَّولي بـأمن الطَّاقة، وأمن الممرَّات المائية البحريَّة والتجاريَّة.
وإذا كان الموقع الاستراتيجي قد استرعى اهتمام دول العالم، فإن اكتشاف النَّفط أضافَ عنصرًا حيويًّا للخليج، حيثُ جمعت المنطقة بهذه المادَّة الخام – التي تُمثِّلُ عصب الحضارة الحديثةِ – بين مصادر الثروةِ والقوَّةِ العالميَّة، فمن يسيطر على الخليج وموقعه يسيطر على العالم.
هذه الأهميَّة الاستراتيجيَّة والاقتصادية للمنطقة جعلتها هدفًا ومسرحًا لتنافس القوى الدوليَّة الرَّامية إلى السيطرة عليها؛ وبالتالي لم يكن غريبًا أن تحظى قضيَّة الأمن والاستقرار في الخليج باهتمام القوى الدولية الكُبرى، فما شهدته المنطقة – وماتزال- منْ أحداثٍ وتطوُّراتٍ، في أوقات السِّلم والحربِ، لم يكن سوى نتيجة طبيعيَّة لذلك الاهتمام وتلكَ الأهميَّة.
وقد عكست المصالح الدوليَّة المتشابكة والمتداخلة في الخليج مدى التَّرابط بين الأمن الإقليمي الخليجي والعالمي وبخاصَّة منذُ انتهاء الحرب الباردة، ويكفي للدِّلالة على صحَّة هذا الأمر، أنه لم تخلُ استراتيجية غربية للأمن القومي، من الإشارة إلى أهميَّة الحفاظ على النَّفط وتدفقه بأسعارٍ وكمياتٍ مناسبةٍ وخاصَّة القادم من منطقة الخليج، وذلك على نحو ما تتضمنه استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي خاصَّةً منذُ انتهاء مطلع تسعيناتِ القرن العشرين، مرورًا بالاستراتيجيَّات الأمنيَّة البريطانية منذُ عام 2003م، وصولًا إلى الاستراتيجيات الفرنسية منذ عام 2009م.
ثانيًا- الوجود العسكري للقوى الدولية في الخليج العربي:
على الرغم من الأهمية الجيو استراتيجية والاقتصادية والأمنية التي تتمتَّع بها منطقة الخليج العربي بما يضعها في مصاف المناطق الحيوية في العالم قاطبةً؛ فإنها لم تشهد على مدار تاريخها الحديث فتراتِ استقرارٍ ممتدَّة.
إذ عصفت بالمنطقة، خلال العقود الأخيرة ثلاثة حروب، هي: الحرب العراقية – الإيرانية أو حرب الخليج الأولى (1980–1988م)، وحرب تحرير الكويت أو حرب الخليج الثَّانية(1991م)، والحرب الأمريكيَّة في العراق (2003م)، فضلًا عن إنذارٍ بحربٍ رابعة قد تندلع في أيَّة لحظة بين طهران وواشنطن على خلفيَّة أزمة البرنامج النَّووي الإيراني.
ورغم هذه الحروب والأزمات، لم تُفلح المنطقة في وضع ترتيبات أمنيَّة معيَّنة – على المستويين: الإقليمي والوطني – تضمن أمنها واستقرارها، ففي أعقاب كلِّ حربٍ من الحروب التي شهدتها المنطقة، اتُّخذت على إثرها بعض التَّرتيبات – بما فيها الوجود العسكري لقوى كُبرى- ولكن هذه الترتيبات جميعها أخفقت حتَّى الآن، في إرساء نظام أمنيِّ إقليميِّ يوفِّر الأمن والاستقرار للخليج ودوله.
1) الوجود العسكري البريطاني:
طوال الفترة الممتدَّة منذُ النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر وحتى نهاية ستينات القرن العشرين، مثَّلت القواعد العسكرية الثابتة أو الدَّائمة المهمَّة للترتيبات الأمنيَّة ضمن استراتيجية بريطانيا؛ لتحقيق الأمن والحمايةِ في أعالي البحار وخاصَّةً في شرق السُّويس ومنطقة الخليج، ولمنع تحدي القوى الأخرى من السيطرة على المنطقة.
فكان الاعتقاد بأنَّ هذه القواعد كفيلة بإحكام السيطرة البريطانية بشكلٍ دائم على مقدَّرات هذه المنطقة، حيث مثَّل الأسطول الملكي البريطاني القوَّة الضاربة للتَّصدي لأيَّة تهديدات خارجيَّة تتحدى النُّفوذ البريطاني في هذه المنطقة التي تُعَدُّ “قلب العالم” بحسب نظرية ماهان عن التَّفوق البحري.
وقبل مرحلة السيادة البريطانيَّة، شهدت منطقة الخليج تعاقب القوى الاستعماريَّة الأوروبيَّة للسيطرة عليها، وشمل ذلك: هولندا، والبرتغال وغيرهما من القوى السَّابقة على استقرار بريطانيا واحتكارها للخليج.
ومن القواعد البريطانية المهمَّة التي كانت في الخليج ثلاث قواعد رئيسة، هي: قاعدة عدن في اليمن جنوب شبه الجزيرة العربية، وقاعدة الجفير في البحرين، وقاعدة جويَّة في مسقط بسلطنة عُمان.
كما قامت بريطانيا بحراسة مياه الخليج، عن طريق نظام المراقبة بالدوريات البحريَّة التي تجوب مياه المنطقة، وفي مرحلة لاحقةٍ أنشأت محطات ثابتة لقواتها البحريَّة.
وفي مرحلة لاحقةٍ، تحوَّلت القواعد العسكريَّة البريطانية الثَّابتة من جويَّة وبحريَّة إلى موانئ ومطارات مدنيَّة بعد انتشار النقل الجوي وازدياد سفن الرُّكاب.
غير أنَّ التحوُّلات في البيئة الاستراتيجية الأمنيَّة في المنطقة عمومًا وفي الخليج في نهاية ستينات القرن العشرين؛ جعلت من الصَّعب على بريطانيا مواصلةَ القيام بدور”شرطي الخليج”، ممَّا دفعها للإعلان عن سياستها الجديدة الخاصَّة بالدفاع عن منطقة شرقي السُّويس، حيث قرَّرت الحكومة العمالية برئاسة هارولد ويلسون، في 16 يناير عام 1968م، أنَّه من الملامح المهمَّة لهذه السياسة، الانسحاب العسكري من الخليج بحلول عام 1971م.
وكان ذلك إيذانًا بإحلال الولايات المتحدة محلَّ بريطانيا في الحفاظِ على أمن الخليج، باعتبارها قائدة المعسكر الغربي خلال الحرب الباردةِ في مواجهة الاتِّحاد السوفيتي والمد الشُّيوعي في العالم والمنطقة.
2)- الوجود العسكري الأمريكي:
على مدار أكثر من عقدين من الزَّمن، منذُ الانسحاب العسكري البريطاني من المنطقة وحتَّى عام 1990م، ركَّزت الاستراتيجية الأمريكية للحفاظ على أمن الخليج على آليَّات التنسيق: الثُّنائي والجماعي مع دول المنطقة لمنع آيَّة تدخلات لقوى خارجية، وفي ذات الوقت الحفاظ على التوازن بين القوى الإقليمية المتنافسة في المنطقة- إيران والعراق – مع الاحتفاظ بالتدخل العسكري المباشر وقت الضرورة وفقًا لما أرساه “مبدأ كارتر” لأمن الخليج عام 1980م، وبالتالي لم يكن هناك حاجة لتواجد عسكري أمريكي دائم في المنطقة خلال هذه المرحلة.
غير كونه من النتائج المهمَّة التي ترتبت على اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، إعلان الرئيس الأسبق جيمي كارتر عن مبدئه الذي يقول بضرورة تقوية الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، باعتبارها “سريعة التغيير وأنها بحر الرياح المتقلِّبة”، ومن ثَمَّ أعلنت واشنطن عن تشكيل قوات التدخل السريع؛ ممَّا مهَّد لاحقًا للتواجد العسكري المباشر في المنطقة.
وفي المراحل اللاحقة من تلك الحرب على مدار عقد الثمانينات، كرَّست الولايات المتحدة الأمريكية جهودها لتوسيع وجودها العسكري في الخليج، وذلك من خلال الحصول على تسهيلات جوية وبحرية تكفل لها التدخل على وجه السرعة للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة في حال وقوع أزمات، لاسيَّما مع اندلاع ما عُرِفَ بـ “حرب النَّاقلات” خلال الحرب بين العراق وإيران.
وبعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية؛ عادت الأوضاع الأمنية في الخليج إلى حالتها السابقة، حيث ساد الهدوء النِّسبي بعد وقف إطلاق النار بين الطرفين المتحاربين في أغسطس عام 1988م، وترتب على ذلك عودة الوجود البحري العسكري الأمريكي في المنطقة إلى مستويات ما قبل “حرب النَّاقلات”، حيث تمَّ الاكتفاء بمرابطة خمس سفن، وحاملة طائرات واحدة في مياه المحيط الهندي بالقرب من مياه الخليج.
وظل الأمر كذلك حتى اندلاع حرب الخليج الثانيةعام1991م التي مثَّلت تحولًا جوهريًّا في مجمل معطيات البيئة الأمنية في المنطقة، وكذلك في تغيير معادلة توازن القوى، ومصادر التهديد، ممَّا كان له تأثيرات عميقة على ماهية طبيعة الترتيبات الأمنية السائدة آنذاك في الخليج.
فقد أوجدت هذه الحرب معطيات جديدة في البيئة الاستراتيجية الأمنية في المنطقة، لاسيَّما لجهة ما يتعلق بطبيعة وآليَّات مشاركة القوى الدولية المعنيَّة مباشرةً بتحقيق أمن الخليج والحفاظ عليه في مواجهة التهديدات والتحديات التي أفرزتها تلك الحرب.
وبرز معطًى استراتيجيٌّ جديدٌ في معادلة الأمن الإقليمي الخليجي تمثَّل في الحاجة المُلحَّة إلى وجود عسكري دولي دائم في المنطقة، جنبًا إلى جنبٍ مع توفير التدريب لجيوش دول مجلس التعاون الخليجي لمواجهة المخاطر الأمنية المحتملة.
وساهمت المعطيات الإقليمية الجديدة في تكريس الدور الأمريكي في الحفاظ على أمن منطقة الخليج والترتيبات الأمنيَّة اللاحقة لانتهاء الحرب في المنطقة.
ومن ثمَّ، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وبالتزامن مع نهاية الحرب الباردة، أصبح الوجود العسكري الأمريكي المباشر أحد أبرز مرتكزات ومعالم النظام الأمني الإقليمي في منطقة الخليج.
وارتبط بهذا الدور المتنامي، وبناء على التصور الأمريكي العام لكيفية ضمان أمن الخليج في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية، اتخذت الولايات المتحدة سلسلة من الترتيبات الأمنية لتحقيق ضمان أمن المنطقة وفقًا لهذا الإدراك، أبرزها: تعزيز وجودها العسكري المباشر في منطقة الخليج، وإبرام اتفاقيات للتعاون والتنسيق الدفاعي والأمني مع دول المنطقة.
وبذلك، شكَّلت حرب الخليج الثانية نقطة تحوُّل فارقة في الوجود العسكري الأجنبي في الخليج؛ إذ إنه قبل ذلك لم يَكن للولايات المتحدة الأمريكية قواعد عسكرية دائمة في المنطقة، وكانت تكتفي بالتسهيلات العسكرية التي تحتاجها أساطيلها البحرية والجوية المتجولة دائمًا في البحار الدولية.
فقد تطور التواجد العسكري الأجنبي في المنطقة؛ ليأخذَ أشكالًا عديدة، منها : القواعد الجوية، والتسهيلات البحرية، ومستودعات أسلحة ومعسكرات للقوات البرية بفروعها المختلفة.
كما اشتمل الوجود العسكري الأمريكي على تواجد بحري ممثَّل في الأسطولين: الخامس والسادس، وحاملات طائرات متواجدة بشكل دائم في مياه الخليج وبحرالعرب، بالإضافة إلى تواجد جوي في شكل قواعد جوية.
وتمركزت قيادة الأسطول الأمريكي الخامس في المنامة بمملكة البحرين، وتألفت من: غواصة نوويَّة، ومجموعة قتال مؤلفة من حاملة طائرات وست سفن سطح قتالية و3 سفن برمائية و4 سفن للتدابير المضادة للألغام.
وقد تباين حجمُ ونوعية الوجود العسكري الأجنبي وتعدَّدت مواقع تمركزه، من دولة لأخرى من دول مجلس التعاون الخليجي وفقًا لاتفاقيات التعاون الدفاعي المبرمة بين واشنطن وكلٍّ من هذه الدول على حدة،
بالإضافة إلى ذلك، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على نشر أكبر وأحدث النظم الدفاعية والأمنية في المنطقة، ومن ذلك: المبادرة الأمريكيَّة لتأسيس نظام دفاعي صاروخي مشترك، التي اقتُرِحَت للمرة الأولى عام 2002م، ثم طُرِحَت مجدَّدًا في عدة مناسبات لاحقة.
هذا، ودفعت أحداث 11 سبتمبر عام 2001م بالوجود العسكري الأمريكي في الخليج، خطوات واسعة إلى الأمام، حيث تضاعفت أعدادُ القوات الموجودة في دول المنطقة، وزاد العتاد العسكري المخزون: كمًّا ونوعًا، وأصبح الوجود العسكري أكثر عددًا وأوسع انتشارًا من ذي قبل، وذلك لمكافحة الإرهاب العالمي، والحدِّ من النفوذ الإيراني الآخذ في التوسُّع، ممَّا يمثل تهديدًا لأمن الخليج.
وفي أعقاب انتهاء العمليات العسكرية في العراق 2003؛ تضاعفَ حجم القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة عدَّة مرات عمَّا كان عليه قبل هذا التَّاريخ.
وبحسب بعض التقديرات، بلغ قوام القوات الأمريكية في العراق ودول المنطقة، بعد انتهاء حرب العراق وبروز أزمة البرنامج النَّووي الإيراني على الأجندة الدولية عام 2003م، أكثر من 220 ألف جندي، منهم 140 ألفًا في العراق وحده.
ثالثًا- دواعي إعادة النَّظر في الوجود العسكري الأمريكي الرَّاهن:
لم تكد إدارة الرئيس جو بايدن تتم أول 100 يوم في البيت الأبيض، وهي الفترة التي تُعرف في أدبيَّات النظم الديمقراطية بفترة “شهر العسل السياسي”، حتى أثارت جدلًا واسعًا بشأن سياساتها الواقعية خلال سنواتها الأربع المقبلة تجاه منطقة الشرق الأوسط عمومًا ومنطقة الخليج على وجه الخصوص.
وتركَّز هذا الجدل تحديدًا على مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، لاسيَّما مع بروز تقارير أمريكية غير رسميَّة تزامنتْ معها تصريحات شبه رسميَّة حول اعتزام إدارة الرئيس بايدن اتِّخاذ قرار بشأن سحب أو تقليص الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة، وما يعنيه ذلك فيما يتَّصل بأولويات منطقة الخليج ضمن الاستراتيجية الأمنية لإدارة بايدن.
فقد نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” ذائعة الصيت مطلع أبريل المنصرم عن مسئولين أمريكيين- لم تسمِّهم- قولهم: إنَّ الرئيس بايدن أوعز إلى وزارة الدفاع “البنتاغون” للبدء في سحبِ جزءٍ من القوات الأمريكية والعتاد من منطقة الخليج، في إطار إعادةِ تنظيم الوجود العسكري هناك.
وذكر المسؤولون الأمريكيون أنَّ منظومات رصد واستطلاع ستُسحبُ من الشرق الأوسط؛ بهدف تلبية احتياجات واشنطن العسكريَّة في مناطق أخرى، وأنَّ هناك خياراتٍ إضافيةً لتقليص التواجد العسكري “قيد النِّقاش”.
واعتبرت “وول ستريت جورنال” أنَّ هذه الخطوات تمهِّد طريقًا لسحب بضعة آلاف من العسكريين مستقبلًا، مشيرة إلى أنَّ التواجد الأمريكي في المنطقة يقدر حاليًّا بنحو 50 ألف عسكري، مقارنة بـ 90 ألفًا في ذروة التَّصعيد مع إيران قبل عامين.
وفي ضوء ندرة الخطاب السياسي المعلن للإدارة الديمقراطية الأمريكية في هذا الصدد، يمكن القول بأنَّ ثمَّة اعتبارات موضوعيَّة ربما تدفع إدارة بايدن لإعادة النظر في طبيعة الوجود العسكري الراهن في الخليج، دون أن يعني ذلك خصمًا من أهمية المنطقة أو تراجع تراتيبتها في سُلَّم الأولويات الاستراتيجية العالمية لواشنطن.
ويأتي في مقدِّمة هذه الاعتبارات، ما يلي:
– إعادة ترتيب مصفوفة مخاطر الأمن القومي الأمريكي، حيث تصنف إدارة بايدن- خلافًا لإدارة دونالد ترامب- كلًّا من: روسيا والصين على أنَّهما “الخطر المهمُّ” وليست إيران، ويعني ذلك سحب قوات من منطقة الشرق الأوسط متضمنًا الخليج العربي إلى محيط الباسيفيك.
وقد نصَّت الوثيقة – الدليل الاستراتيجي المؤقَّت – الصَّادرة عن إدارة بايدن ونشرَ نصَّها البيتُ الأبيض رسميًّا في الثالث من مارس 2021م، على أنه: “سيكون وجودنا العسكري الأقوى في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ وأوروبا، معَ ردع أعدائنا والدفاع عن مصالحنا. وفي الشَّرق الأوسط؛ سنترك القَدْر اللازم من القوَّة للقضاء على الشبكات الإرهابية، وردع العدوان الإيراني، وحماية المصالح الأمريكية الرئيسة الأخرى”.
– استكمال الاتِّجاه العام للاستراتيجية الأمريكية التي دشنتها إدارة أوباما الدِّيمقراطية، وتابعتها إدارة ترامب الجمهورية، والقائمة على إنهاء حروب الولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، والحدِّ من التورُّط المباشر للقوات الأمريكية في مناطق وبؤر الصراع حول العالم.
وهذا التوجه العام تمَّ تضمينه في وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي، والتي تعهدت بإنهاء “الحروب الأبدية التي كلفت الآلاف من الأرواح وتريليونات الدولارات بشكل مسؤول”.
وفي هذا الإطار، حدَّدت إدارة بايدن 11 سبتمبر المقبل موعدًا للانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من أفغانستان، أي بعد عقدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.
– تقليل احتمالات تعرض القوات والقواعد العسكرية الأمريكية لهجمات متكرِّرة في إطار المناوشات المتقطعة أو تبادل رسائل الردع بين واشنطن من جهة وبين خصومها الاستراتيجيين أو حلفائهم من جهة أُخرى.
وفي هذا السياق، جاء القرار الأمريكي خلال العام 2020م بتقليص عدد قواعدها العسكرية في العراق، وخفض عديد قواتها في القواعد أو المعسكرات المتواجدة هناك.
واتَّخذت واشنطن هذا القرار بعد قصف أحد معسكراتها في العراق لهجمات صاروخية إيرانية على خلفية اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري “قاسم سليماني” بطائرة أمريكية بلا طيار (درون) قرب مطار بغداد مطلع يناير 2020م، فضلًا عن الهجمات الصاروخية المتواصلة على مقرِّ السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء في العاصمة العراقية.
رابعًا- تداعيات الانسحاب الأمريكي المحتمل على أمن الخليج:
من المتوقع أن تعتمد التداعيات المحتملة للانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة على طبيعة هذا الانسحاب من حيث إنه سيكون: كليًّا أم جزئيًّا، ومضمون هذا الانسحاب وما سيتم من خلال سحب العناصر البشرية وحدها أو تقليصها دون أن يمتدَّ إلى الآليَّات والمعدات والتجهيزات العسكرية والأمنية واللوجيستية، وكذلك سيعتمد الأمر على المدى الزمني الذي سيتمُّ خلال هذا الانسحاب أيًّا ما ستكون ماهيته، وهل سيتمُّ بشكل آني فوريٍّ دفعة واحدة أم بطريقة مرحلية تدريجيَّة؟
في ضوء الخبرة التاريخية للمنطقة، وطبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول مجلس التعاون الخليجي، وتشابك القضايا والملفات الإقليمية في الخليج والشرق الأوسط عمومًا مع مرتكزات ومهددات الأمن القومي الأمريكي بمنظوره الاستراتيجي الشَّامل؛ في ضوء ذلك كله يُرجح أن يكون اتجاه الانسحاب العسكري الأمريكي من الخليج – في حال تحوله إلى قرار ومن ثمَّ دخوله حيز التنفيذ في عهد الرئيس بايدن- جزئيًّا، ومحدودًا، ومتدرجًا.
وبالتالي، فمن المرجَّح أن تكون التداعيات المحتملة لمثل هذا القرار المرتقب، محدودة للغاية على الأقلِّ على المدى القصير وربما المتوسط أيضًا، لكن تلك التداعيات ستكون أوسع مدى وأعمق تأثيرًا بطبيعة الحال، على المدى الزمني الطويل.
وإجمالًا، يمكن رصد أبرز هذه التداعيات، من المنظور الخليجي، على النحو التالي:
1. على المديين: القصير والمتوسط:
أ. حدوث فراغ أمني في المنطقة بسبب غياب القوة الدولية الكُبرى المؤهَّلة حاليًّا لتكون بديلًا للولايات المتحدة الأمريكية كموازن دولي للأمن في الخليج.
ب. زيادة فرص إيران في تحقيق أهدافها بالهيمنة وتوسيع النفوذ على منطقة الخليج؛ نظرًا لحالة الضعف المؤقت الذي يمرُّ به العراق، باعتباره المكافئ الاستراتيجي الإقليمي التقليدي لإيران.
2. على المدى الطويل:
أ. تزايد احتمالات تجدُّد الصراعات الإقليمية وربما نشوب حروب جديدة في المنطقة.
ب. تعاظم التهديدات لسلامة وأمن الممرات المائية الإقليمية الحيوية للتجارة الدولية، خاصَّة مضيق هرمز، ممَّا سيمثل تهديدًا مباشرًا ليس فقط لأمن واستقرار المنطقة، بل وأيضًا للسِّلم والأمن الدَّوليين.
خامسًا- محدِّدات مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج:
من المتوقع أن تساهم عدة محدِّدات في تحديد المسار المستقبلي للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، ومن هذه المحددات المهمة ما يلي:
1. مستقبل الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، وما يتصل بذلك من مستقبل العلاقات العراقية – الأمريكية وما يرتبط بذلك من مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
2. مستقبل العلاقات الإيرانية – الأمريكية وفق السيناريو الذي سيتم التوصُّل إليه بشأن تطورات البرنامج النَّووي الإيراني على ضوء مفاوضات “فيينا” النَّووية الراهنة بين طهران وواشنطن في عهد بايدن.
ومن شأن هذه التطوُّرات المحتملة أن تؤثِّر- إيجابًا و/أو سلبًا- على الإطار الهيكلي الجديد للنظام الإقليمي في الخليج، كما ستؤثِّر على طبيعة منظومة العلاقات الإقليمية = الخليجية التي ستفرض نفسها في المستقبل.
وتبعًا لذلك، يتوقَّع أن يشهد الخليج تغييراتٍ شاملةً وعميقةً، ممَّا يفرض تساؤلات رئيسة حول ماهية وآليَّات ومستقبل التغيير الأمني المحتمل والمرغوب في المنطقة.
من المرجَّح أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في القيام بدور القائد للقوى العالمية فيما يتعلَّق بأمن منطقة ودول الخليج، وذلك في ضوء مجموعة من الاعتبارات الاستراتيجية المتمثِّلة في التَّالي:
– تحوُّل الولايات المتحدة الأمريكية من عنصر مؤثِّر في معادلة أمن الخليج، إلى جزء من هذه المعادلة وذلك نظرًا لتواجدها العسكري المباشر في المنطقة، فضلًا عن ترجيح استمرار احتفاظها بالانفراد بمركز القوة العُظمي الوحيدة في العالم خلال العقدين المقبلين من الزمن على أقل تقدير.
– حرص واشنطن على تواجدها: السياسي والأمني في المنطقة تحسبًا لأيَّة تطوُّرات في سياق أزمة البرنامج النَّووي الإيراني.
– كثافة المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي.
في ضوء ذلك، من المرجَّح أن يستمر الوجود العسكري الأمريكي في الخليج التَّرتيب الأمني الأبرز والمهم للحفاظ على الأمن والاستقرار في الخليج، في المستقبل المنظور، وستظلُّ الولايات المتحدة تمثِّل الموازن الخارجي للقوَّة العسكرية الإيرانية المتنامية.
وترتيبًا على ذلك، يمكن القول بأنَّ إعادة النظر في التواجد العسكري الأمريكي بحجمه الراهن في المنطقة، لن يعني ذلك الانسحاب الكامل على غرار ما فعلت بريطانيا قبل نحو أربعة عقود، ولكنه يعني- في حالِ حدوثه- تنظيم هذا التواجد من حيث العدد، والعتاد، والمهام، وأماكن التمركز والتدريب، بما يوفر القدرة على مواجهة أيَّة تهديدات لأمن المنطقة ودولها وحماية المصالح الأمريكية فيها، سواء بأسلحة تقليدية أوأسلحة دمار شامل، ومع القدرة على المواجهة السريعة والحاسمة للتَّهديدات الإرهابية.
وتشير بعض التقديرات إلى أن الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج سيتعرض لانخفاض ملحوظ مع الاحتفاظ باستراتيجية “النفاذية الدائمة معَ الانتشار العسكري الوقتي()”.
كما أن الوجود العسكري البري تحديدًا سيقتصرُ على مجموعات عسكرية لايزيد حجمها عن الكتيبة تجوب المنطقة من أجل القيام بمهام تدريبية ثنائية ومتعدِّدة الأطراف، كما يُمكن أن تحلق فرقة أو فرقتي استطلاع جوي كلَّ عام فوق أجواء المنطقة، مع تدعيم التواجد البحري العسكري.
ويُعَدُّ هذا الوضع هو الأمثل للقوات الأمريكية في المنطقة خاصةً وأن تزايد القدرات الصاروخية لإيران من شأنه أن يقيد حرية وقدرة الولايات المتحدة الأمريكية عن العمل في الخليج من أكثر من جهة، فعلى مستوى العمليات؛ سيزيد هذا الأمر من هشاشة وضع القوات البرية المنتشرة في دول المنطقة، كما هو حادث حاليًّا في العراق.
ويعزِّز هذا الاتجاه آراء بعض الخبراء الاستراتيجيين في الولايات المتحدة الذين يرون أنها تحتاج – من الناحية العملية – إلى قواتٍ عسكرية محدودة للتصدِّي للمخاطر والتهديدات التي تمسُّ مصالحها الرئيسة في المنطقة.
وبحسب هذا التوجُّه، فإنه فيما يتعلق بتأمين الممرات المائية لضمان تدفق النَّفط، وحماية الناقلات من هجمات التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة، أوإحباط خطط إيران الهادفة إلى إغلاق مضيق هرمز، فإن الرَّد العسكري الأمريكي سيكون عن طريق القواعد العسكرية البحرية الموجودة في مياه الخليج أو بالقرب منها، دون الحاجة للاستعانة بقوات برية مرابطة على أراضي دول المنطقة.
وفي حالة ما إذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية توجيه ضربة عسكرية لإيران؛ لمنعها من حيازة السلاح النَّووي فإن الوجود العسكري الأمريكي، حتى بعد الانسحاب من العراق، سيكون كافيًا لتنفيذ العمليات العسكرية المطلوبة ضد إيران، وبالتالي يصبح زيادة الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة غير ذي أهمية، لاسيَّما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ عملية عسكرية محتملة ضد إيران ستعتمد بالأساس على توجيه ضربات موجعة للمواقع المشتبه في أنها نووية، بالإضافة إلى مواقع الحرس الثوري، ومواقع القيادة والسيطرة، وهي أهداف سيتمُّ قصفها اعتمادًا على القوات الجوية بالدرجة الأولى.
في ضوء ما تقدَّم، يتوقَّع أن يتخذ مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج مسار أحد السيناريوهين التاليين:
1. سيناريو “الانكشاف أو الفراغ الأمني”:
يتوقَّع هذا السيناريو- الذي يُعَدُّ غير مرغوب خليجيًّا- أن تتخذ إدارة الرئيس جو بايدن قرارًا بالانسحاب العسكري شبه الكامل من منطقة الخليج، أي لما يشبه إلى حدٍّ ما الانسحاب البريطاني مطلع سبعينات القرن الماضي.
وربما ساهم في الترويج لهذا السيناريو، حالة الارتباك والتضارب والغموض المبدئي الذي غلب على تصريحات بعض الجهات الأمريكية بشأن التقارير التي تحدثت عن الانسحاب العسكري المحتمَل من الخليج.
حيث قالت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، في تغريدة أنها ستعيدُ نشر عناصرها بناءً على التهديدات في العالم، مضيفةً أن خطتها لإعادة توزيع قواتها في العالم مرهونة بعناصر متعدِّدة.
وفي المقابل، أكَّدت وزارة الخارجية الأمريكية التزام واشنطن بأمن الخليج، لكنَّها نوَّهت في الإطار ذاته إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية دائمًا بإعادة عمليات الانتشار.
إضافةً إلى ما صرح به الرئيس جو بايدن، أثناء عقده أول مؤتمر صحفي له بعد توليه الرئاسة، في مارس 2021م، حين شدَّد على أن “شركاء الولايات المتحدة الأمريكية في الخليج قادرون على تولي المهام العسكرية بأنفسهم بنجاح، وهم قادرون على حماية المنطقة وليس بالضرورة وجود قوات على الأرض()”.
2. سيناريو “توسيع أو تنويع المظلَّة الأمنية”:
يفترض هذا السيناريو استمرار اضطلاع الولايات المتحدة الأمريكية بالدور القائد والحاسم في حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، مع تشجيع قوى دولية ممثَّلة في حلفائها الأوروبيين من خلال حلف شمال الأطلسي “النَّاتو” ومبادرة إسطنبول، وكذلك قوى إقليمية (خاصة مصر التي تحظى بالقبول الخليجي)، للمشاركة في المظلَّة الأمنية بالمنطقة.
وتبعًا لهذا السيناريو المتفائل والإيجابي، من المتوقَّع أن يكون الانسحاب الأمريكي- حال حدوثه- محدودًا وعلى فترة زمنية ممتدة تتراوح ما بين 5 إلى 10 سنوات.
ويدعم فرص تحقق هذا السيناريو، أن انسحابًا أمريكيًّا عسكريًّا واسعًا وفوريًّا سيكون باهظ الكلفة ليس فقط على الأمن الخليجي والإقليمي والدولي، ولكن كذلك من منظور المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية التي تتجاوز أيَّ رؤية ضيقة لإدارة أو حزب سياسي معيَّن حتى وإن كان سيد البيت الأبيض ينتمي إليه أو كان يسيطر على أغلبية الكونغرس أو كليهما معًا.
وثمَّة شواهد واعتبارات عديدة تعزِّز تحقيق هذا السيناريو، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
التصريحات الصَّادرة عن الإدارة الأمريكية التي استبعدت اتخاذ قرار بشأن الانسحاب، ومن بينها ما صرح به لقناة “العربية الإخبارية الفضائية”، جوي هود مساعد وزير الخارجية الأمريكية مطلع أبريل الماضي من أن القوات الأمريكية لن ترحلَ عن المنطقة، نافيًا اتِّخاذ وزارة الدفاع “البنتاغون” والرئيس بايدن قرارًا بشأن تخفيض عدد القوات في الخليج، أو سحب معدات، لافتًا إلى أنه ربما يكون هناك فقط إعادة تموضع للقوات الأمريكيَّة.
ومن شأن تحقُّق هذا السيناريو، الذي يتَّسم بالواقعية السياسية والرؤية الاستشرافية التي تتجاوز المستقبل المنظور، أن يُعالج على نحو جوهري القضايا التي ما زالت تهدد أمن واستقرار الخليج، وفي مقدِّمتها: البرنامج النَّووي الإيراني؛ إذ سيكون من المتحتم على الولايات المتحدة الأمريكية التأني في طرح الانسحاب من المنطقة، واتِّخاذ الترتيبات الضامنة؛ لاستتباب الأمن والاستقرار، وتأمين استجابات قوية وتصدي فعَّال لأية تهديدات ناشئة أو تحديات محتملة، وبما يضمن تجنب تكرار التداعيات الكارثية التي ترتبت على الانسحاب الأمريكي غير المدروس في أعقاب الحرب في العراق عام 2003م.
ويشير إمعان النظر إلى أن واشنطن ربما بدأت تتَّخذ خطوات استباقية في هذا الاتجاه، وهو ما تعززه تطورات ومعطيات جديدة، لعلَّ من أهمها: سعي واشنطن لمشاركة قوى إقليمية فاعلة ومهمة في تحقيق الأمن بالمنطقة، ومن أبرز ذلك: الإعلان يوم 13 أبريل 2021م، عن انضمام مصر للقوات البحرية المشتركة بمنطقة الخليج بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو تحالف متعدِّد الجنسيات للأمن ومكافحة الإرهاب وتأمين الممرات والمضايق المائية حول قناة السُّويس ومضيق هرمز.
وقد رحَّب قائد الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، الفريق بحري صمويل بابارو جونيور بمساهمة مصر، قائلًا: “إنَّها شريكٌ مهمٌّ في ضمان الاستقرار في المنطقة.. نرحب بشراكة مصر في مهمتنا التي تركز على جعل المنطقة والعالم آمن”.
سادسًا- الاستنتاجات والتَّوصيات:
1.الاستنتاجات:
– حديث الدوائر الرسمية والأوساط غير الرسمية الأمريكية، بشأن الوجود العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير بطبيعة الحال. لكنه في المجمل يمثِّل “بالون اختبار” لحسن الإدراك السياسي لدول المنطقة، و”جس نبض” لمدى صلابتها وقدرتها على التعامل الفعَّال والمرن مع متغيِّرات السياسة الأمريكية خصوصًا، والسياسة العالمية عمومًا.
– تُظهر معطيات البيئة الاستراتيجية الأمنية في الخليج أن الأمن في هذه المنطقة يتجاوز مفهوم الردع العسكري الذي ظلَّ سائدًا منذ الانسحاب البريطاني من المنطقة في مطلع السبعينات من القرن المنصرم؛ حيث أصبح الأمن السياسي والاقتصادي والمجتمعي عناصر جوهرية لا بدَّ أن تشملها مخرجات أية منظومة مقترحة للأمن الوطني والإقليمي في الخليج، بما يتلاءم مع معطيات البيئة الاستراتيجية الأمنية في المنطقة.
– يشير إمعان النظر في الاستراتيجية الأمنية للقوى الدولية الكُبرى تجاه الخليج العربي، وتحديدًا بريطانيا العُظمى والولايات المتحدة الأمريكية، إلى أنَّها يمكن أن نطلق عليها مسمَّى “استراتيجية بندول السَّاعة”.
حيث يُراوح جوهر هذه الاستراتيجية الأمنيَّة من فترة زمنية لأخرى، بين آليَّات التنسيق السياسي والأمني مع دول المنطقة وهذه القوى تارة، وبين الوجود العسكري الدولي المباشر تارة أخرى.
– التواجد العسكري الأجنبي المباشر الدائم في المنطقة، لا يمثِّل الدعامة التي يمكن على أساسها إقامة نظام أمني خليجي يتَّسم بدرجة كبيرة بالاستمرارية، لأنه عرضة للانهيار في أي وقت، نظرًا لاعتماده على قدرة واستعداد الولايات المتحدة الأمريكية على توظيف قوتها العسكرية في الخارج، وهي القدرة التي تخضع لاعتبارات ومؤثرات كثيرة ومتغيِّرة ترتبط بالداخل الأمريكي لا يُمكن التكهن بمدى استمراريتها.
2. التوصيات:
-ضمان أمن الخليج، كما تؤكِّد الخبرة التاريخية، يجب ألا يأتي من قِبَل طرف دولي واحد حتى لو كان هذا الطرف القوة العُظمي الوحيدة في العالم، بل لا بدَّ من تأسيس شراكة دولية: سياسية واقتصادية وأمنية، مع القوى الدولية الصاعدة باعتبار ذلك الوسيلة المتكاملة والأكثر فعالية للخروج من حالة عدم الاستقرار المتأصلة في المنطقة.
لا سيَّما وأن الخبرة التاريخية والمعاصرة تُظهر أن دور القوى الخارجية في تحقيق أمن الخليج سيظل حيويًّا ومهمًّا، وسيظلُّ كذلك لاعتبارات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة، ولكن فعالية قيام هذه القوى الخارجية بدورها الأمني يتوقف إلى حدٍّ كبير على تعاونها مع القوى الإقليمية.
بعبارة أخرى، أنه إذا كان دور الدول الكُبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية يُعَدُّ أحد الشروط اللازمة لتحقيق أمن الخليج، فهو ليس الشرط الوحيد أو الكافي لبلوغ هذا الهدف.
– إرساء ترتيبات أمنية إقليمية تتضمن بلورة آليات مؤسسيَّة تسمح بتبادل منهجي ومنظَّم لوجهات نظر الأطراف: الإقليمية والدولية، المعنيَّة بأمن المنطقة، بما يُساهم في منع نشوء الصراعات وتسوية الخلافات وفق منطق مدروس ومنطقي يستند لأسس التعاون وحسن الجوار وتفعيل الأداة الدبلوماسية والحوار؛ للتوصل إلى حلول بدلًا من اللجوء إلى القوة العسكرية.
– الترتيبات الأمنية الإقليمية الخليجية في المستقبل يجب أن ترتكز إلى مفهوم الأمن الشَّامل، بحيث تتجاوز فكرة الدفاع بمعناه العسكري الضيق؛ لتتحوَّل من ترتيبات عسكرية دفاعيَّة إلى ترتيبات أمنية ذات أبعاد: سياسية واقتصادية وتنموية.
– بناءً على ما تقدَّم من اعتبارات، يُقْترح اعتماد صيغة توازن المصالح؛ لتكون الخيار المستقبلي الأفضل لإعادة صياغة العلاقات بين دول المنطقة في اتجاه إيجابي، إذ إنه يُساهم في استعادة الثقة المتبادلة بين مختلف الأطراف، ويمنح الجميع الشعور المتزايد بالأمن، ويوفِّر للجميع أيضًا مصالح: اقتصادية وتنموية عبر شبكة من العلاقات: الاقتصادية والتجارية والاستثمارية الإقليمية المشتركة، بالإضافة إلى تطوير التعاون الإقليمي في مجالات: تنمية الموارد المائية والزراعية، وفي النَّفط والغاز الطبيعي.
صفوة القول أنَّ الأشهر المقبلة ستكون كاشفةً وحاسمةً بشأن مدى جدية إدارة الرئيس جو بايدن في اتِّخاذ قرار نافذ بشأن مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج.
وإلى حين زوال حالة عدم اليقين في هذا الشأن؛ فإن حقائق الخبرة التاريخية، والمحددات الموضوعية لعلاقات واشنطن الاستراتيجية في المنطقة، وطبيعة المصالح العالمية الأخيرة؛ ترجِّح عدم إقدام الولايات المتحدة اتِّخاذ قرار بانسحاب شامل وبالغ التداعيات الاستراتيجية على أمن واستقرار دول المنطقة، على غرار قرار الانسحاب البريطاني من المنطقة أواخر ستينات القرن العشرين.
بايدن يخرق البروتوكول في بريطانيا بكشفه عن سؤال الملكة له عن الرئيسين الروسي والصيني