تجبرنا التكنولوجيا للسير في مدارها ، حيث أصبحنا عبارة عن ترس من تروسها ، ولا أبالغ أذا وصفت حال الإنسان في هذا العصر بأنه منساق في طريق التكنولوجيا كجلمود صخرا حطة السيل من علٍ .
ولا يعيب الثور الذي أغمضت عينيه وربط في ذراع الساقية وأمر بالسير ، أنه ينتج ، ولكن الذي يعيبه أنه غير مدرك لما ينتج ، وهل ما ينتجه نافع أم ضار .
فإشكالية الإنسان مع التكنولوجيا أنه غارق في تبعات التكنولوجيا التي تسييره وتفرض عليه المعايير والشروط للتعامل معها ، فهو محاصر بقيودها بالرغم من امتلاكه المزعوم لزمامها ، ولكنه في الحقيقة فأنه مجرد خادم في بلاطها ، وخاضع لمتطلباتها الثقيلة .
ومن هذه المتطلبات الانصياع لضرورات العصر الرقمي ، الانفتاح والتحرر اللانهائي غير المنضبط ، والثقافة غير المحايدة التي تتبني فكر معين ، وهو ما يبتعد بالإنسان عن القيم المعترف بها إنسانياً من عدالة، وصدق، وأخلاق، وحرية منضبطة .
فلم تكن مشكلة الرقمنة والتكنولوجيا تكمن فقط في مخاطرها التي تتمثل في انتهاك الخصوصية بما وفرته من وسائل إعلام مرئية ومقروءة ، ووسائل اتصال حديثة وأجهزة رقمية متعددة كالموبايل الذكي ، والساعات الرقمية الذكية ، وشاشات التلفاز ، والثلاجات ، والتكييفات وغيرها من الأجهزة الرقمية الذكية ، والتي أدت إلي أن يصبح الفرد عبارة عن كتاب مفتوح ، وبات من اليسير معرفة كل شيء عنه بدون أي جهد ، ولم يصبح هناك حاجة للتنقيب عن الأسرار أو البحث عنها ، بل أصبحت المعلومات والأخبار والأسرار العميقة تصل بسهولة وطواعية إلي الآخرين عن طريق ضغطة علي زر في جهاز رقمي ذكي .
فانتهاك الخصوصية ليس هو الخطر الوحيد ، ولكن الخطر الأكبر يتمثل في تغيير النمط الإنساني ، أو تغيير الإنسان في جوهره ، وتغييره من الداخل ، علي النحو الذي يكون فيه الإنسان الرقمي خاضعًا لطغيان الرقمنة في كل مناحي الحياة وفي كل مكان وبكل ما تفرضه من ثقافات وأفكار سواء كانت ضاره أو نافعة ، وهذه الأفكار هي التي تسير الإنسان.
وتجعله مستقبلاً لكل مؤثراتها ، في مأكله ومشربه ونومه ويقظته ، وحتى في مرضه وعلاجه ، ولن يبقى هناك مجالاً للتفكير والرؤى أو إعمال أي محاولة للتصرف الذاتي ، حيث يكون جسده المادي بما فيه عقله، تحت سيطرة الطفرة التكنولوجية، ترشده، تحل كل مشاكله، ترفّهه وتغريه اقتصاديًا ربما، هذه الفجوة التي بدأت بالإتساع بين الإنسان صاحب العقل الذاتي ـ وبين الإنسان الرقمي خلقت فجوة كبيرة بين الإنسان وذاته ، وبين الإنسان وأخية الإنسان ، وبين الأجيال بعضها ببعض .
التكنولوجيا المفاجئة خلقت نوع من الاغتراب بين الإنسان وذاته للدرجة التي جعلته يشتاق للعودة ، ويتوق لليوم الذي تزول فيه التكنولوجيا والتقنيات .
وبعيدا عن التمني والاشتياق فعلي الإنسان أن يستعيد ذاكرته وعقله وتفكيره ، ويعاود البحث عن وجوده الفعلي ، واستعادة زمام أموره ، وليس عن طريق ركوب الساقية والدوران اللاإرادي بارتكاب نفس الخطأ، واستهلاك النظريات الفكرية الجاهزة، بل العودة إلى أصله ، واختراق حواجز التكنولوجيا وإطاراتها السميكة ، وتحطيم كل قيودها ومحدداتها ، ومحاولة التعايش مع قيمها بطريقة تحررية لا سادية ولا تحكمية .
فلم يمت الإنسان حينما كان يعيش بدون موبايل ، ولم يمرض إذا قطعت عنه الكهرباء ، أو إذا تمزقت كابلات الإنترنت ، نعم ستكون الحياة أصعب ، ولكنها لن تكن مستحيلة .