هذه الشخصية التي صنعها خيال الأديب الكبير “نجيب محفوظ ” في روايته زقاق المدق ، لم يظل في الخيال أو علي الورق ، بل قفز إلي الواقع ليعيش بيننا مع بعض الفروق .
” زيطة ” في رواية زقاق المدق كانت مهمته التشويه الجسدي وصناعة العاهات البدنية ، فكان يهيئ الشخص للعمل في مجال التسول و الشحاته عن طريق قطع ساقه ، أو بتر زراعه ، أو تصفية عينه ، أو إحداث أي عاهة به ، حتي يجعله مشوهاً ليناسب العمل في مهنة التسول التي تدر ربحاً كبيراً .
وكان ” زيطة ” حينئذ عنده القدرة الرهيبة علي تشويه الأجساد وتشويه الأبدان ، ولكن ” زيطة ” اليوم أصبح ” يزيط ” فيشوه الأذهان عن طريق تحريف الرؤي وتجريف الأفكار ، وزرع الأكاذيب، وزعزعة الثوابت.
وإذا كان زيطة الذي كان يسكن زقاق المدق قد مات ، ولكنه مع كل الأسف ترك لنا أبناء كثر ، فأصبح أبناء ” زيطة ” في هذا العصر أكثر خطرا وأشد ضررا ، من ” زيطة ” الذي كان يسكن في زقاق المدق ، فبعد أن كان يصنع العاهات الجسدية فيشوه الأبدان ، أصبح أبنائه اليوم يصنعون العاهات العقلية والفكرية ، فيشوهون الأذهان .
وتشويه الأذهان لم يعد مجرد نشر أراء جديدة أو غير حيادية ، ولكنه سلوك إجرامي مقيت يستهدف تحويل الذهن من الحرية والاختيار إلي العبودية والانقياد ، فيفقد المشوه ذهنياً صوابه ويسلم فكره وعقله إلي السفهاء فيقودونه كيفما يشاؤوا إلي غيابات المجهول.
ولك أن تكتشف المشوه ذهنياً بسهوله ، فبمجرد الحديث معه تجده نبت غريب ذو منطق شيطاني ، ولا يريد أن يسمع أو يفهم ، بل يرمقك بعينين زائغتين ،وروح تائهة ، وعندما تنصحه لا تحظى منه سوى بكلمات باهتة أو ضحكات صفراء ليس لها معنى ولا مغزي .
وتكمن خطورة تشويه الذهن في أن المشوه ذهنياً يظل مخدوعاً إلي النهاية ؛ لأنه يخضع بسهولة للمشوهين أبناء زيطة ، فيبقي علي حاله كما هو ، و كما أراد له ” زيطة ” فيسمع كلامه ، ويحتفي بأراءه ، ويستسلم لأفكاره ، فينضوي تحت عباءته بكل حواسه وملكاته، ولما لا وقد أصبح المشوه ذهنياً كالجسد الذي فقد روحه .
كما تكمن خطورة تشويه الذهن في صعوبة الملاحقة الجنائية ” لأبناء زيطة ” الذين يتقنون تشويه ضحاياهم ذهنياً ، بسبب عدم كفاية النصوص الجنائية في هذا الشأن بالرغم من أن هذه الجريمة من أبشع الجرائم التي يمكن أن تحاك للفرد ، حيث يتم اختطاف ذهنه عن طريق ملأ عقله بأفكار تشتيتيه، ورؤي مدمرة ، وأكاذيب خادعة.
وفي حين يمكن في حالات التشويه الجسدي أو البدني أن تتحرك الأجهزة الأمنية لملاحقةالمجرمين صانعي العاهات، فإن التشويه الذهني يصعب التبليغ عنه أو ملاحقته ؛ لأنه يتخندق خلف حقوق إبداء الرأي ، وحرية الفكر .
ولعل التقدم التكنولوجي والعلمي وتقنيات التواصل الاجتماعي والحرفية الشديدة في عرض الآراء ونشر الأفكار ؛ أدي إلي تيسير ارتكاب جرائم تشويه الأذهان ، وفرض لسطوة من يرتكبون هذه الجرائم علي الساحات والمنتديات ، مما كان له أثر غريب علي نوعية الضحايا ، فلم يكن الضحايا هم فقط قليلو الحظ من التعليم أو صغار السن ، بل طال التشويه الذهني المستويات العليا من أصحاب الشهادات المرموقة .
وتأتي الخطورة هنا أن التشويه الذهني لهذه المستويات العليا يكون له أكبر الأثر في سريان هذا التشويه وانتشاره علي قطاعات عريضة من الأفراد بحسبان أن هؤلاء المشوهين الكبار محل ثقة كبيرة لدي من يتعاملون معهم .
وأبناء زيطة اليوم لم ينزووا تحت بير السلالم أو البدرومات العفنة ، ولكنهم أصبحوا يسكنون المنازل و القصور ، ولما لا وهم من يحققون أرباح طائلة من ترويجهم لأفكارهم المشوهة المنحرفة .
ولا يمكن حصر أبناء زيطة في شكل معين ، أو مُسمى واحد أو وظيفة واحدة، ولكنهم يتفقون جميعاً في موهبة ترويج الكذب واتقان الخداع ، ونصب الفخاخ وعقد المؤامرات ، كما يتفقون جميعاً في خبرتهم العميقة في التقرب للمجتمعات ، وتنمية العلاقات في مختلف الدوائر ، كما أنهم يسعون دائمًا للبقاء والتطور والنمو مع تعاقب كل العصور .
و لعلاج التشويه الذهني وانقاذ المشوه ذهنياً يجب أن تستيقظ الثقافة السليمة وتتحرك سريعا لمداواة التشوهات التي صنعها أبناء زيطة ، فتزيل الغشاوة من أمام عيون الضحايا ، وتبدد الأكاذيب من علي عقولهم ، وحينئذٍ سيسترد المشوهين ذهنياً وعيهم شيئًا فشيئًا، ويعود لهم الوعي والإدراك لحفظ ضرورات الإنسان.