لا أحد ينكر ما تقدمه الثورة الرقمية من سبل راحة ، ووسائل رفاهية للإنسانية عن طريق تقديم الكثير من الخدمات التي كان من المستحيل تقديمها بدون التقنيات الحديثة ، حيث وفرت هذه التقنيات إمكانية تحقيق التواصل الإنساني ، وإنجاز الأعمال في سهولة ويسر ، إلي جانب أن الثورة الرقمية يمكن توظيفها في مجالات عدة ، سواء مجالات اقتصادية ، واجتماعية ، وكذلك في خدمة النواحي الأمنية وكشف الجرائم ، وأيضاً في خدمة العدالة وتحقيق الإثبات الذي قد تعجز عن تحقيقه الوسائل التقليدية .
مخاطر الثورة الرقمية
إلا أن هذه الثورة الرقمية لها جانب سيئ وضار يتمثل في هتك الستر المجتمعي ، وفضح الأسرار ، ونشر الأخبار علي نطاق واسع ، مما تسبب في أزمة ستر مجتمعي مثيرة ، وتشكل خطر علي الحياة الخاصة .
وفي الحقيقة فإن الثورة الرقمية بما وفرته من وسائل إعلام مرئية ومقروءة ، ووسائل اتصال حديثة وأجهزة رقمية متعددة كالموبايل الذكي ، والساعات الرقمية الذكية ، وشاشات التلفاز ، والثلاجات ، والتكييفات وغيرها من الأجهزة الرقمية الذكية ، أدت إلي أن يصبح الفرد عبارة عن كتاب مفتوح ، وبات من اليسير معرفة كل شيء عنه بدون أي جهد ، ولم يصبح هناك حاجة للتنقيب عن الأسرار أو البحث عنها ، بل أصبحت المعلومات والأخبار والأسرار العميقة تصل بسهولة وطواعية إلي الآخرين عن طريق ضغطة علي زر في جهاز رقمي ذكي .
التجسس علي الأسرار الخاصة
وساعد علي ذلك أن هذه الأجهزة أصبحت قرينة لكل شخص ، وباتت مستودع لكل أسرار حياته ، من حيث ماذا يحب وماذا يكره وماذا يأكل وماذا يشرب ، ومن أين يأتي وإلي أين يذهب ، ومن يصاحب ومن يخاصم ، وكل ذلك وفي كثير من الأحيان يكون الشخص غير مدرك بأن ما يحمله من أجهزة ما هي إلا أداة تتجسس عليه ، وترصد تحركاته ، وتسجل سكناته ، وعلي ذلك يمكن تشبيه الإنسان الذي يحمل موبايل ذكي في جيبه ، وكأنه يحمل كاميرا ومسجل لكل تفاصيل حياته ، ويمكن عرض هذه التفاصيل لمن يريد ذلك أو يسعي إليه .
وتبدو خطورة الثورة الرقمية في أنها أتاحت هذه المراقبة وهذا الرصد لكل من هب ودب ، ووفرت سبل هتك الأسرار ، والاطلاع علي الحياة الخاص للناس لأي شخص ، بعد أن كان ذلك مقصور علي جهات معينة وحسب ، بل أنه أصبح هذا الهتك في مقدور أي شخص مهما كان ، حيث يتمكن الكثير من الأشخاص العاديين من القدرة علي اختراق الهواتف المحمولة وفك شفراتها والدخول علي أنظمتها والاطلاع علي محتوياتها أو العبث فيها .
هتك الستر المجتمعي
وهذا ما يكشف سيل المعلومات وطوفان الفضائح التي تنتشر سريعاً ، و تكسر الستر المجتمعي عن طريق نشرها علي شبكة الإنترنت ، حيث يتم تصوير خبايا الحياة الخاصة وتسجيل كل هناتها عبر الأجهزة الإلكترونية في المنزل كالهاتف المحمول ، وأجهزة الكومبيوتر ، وكاميرات المراقبة ، وجهاز التلفاز الذكي والثلاجات الذكية ، والتكييفات وغيرها من الأجهزة الرقمية الذكية المحيطة بنا ، والتي يمكنها استراق السمع ، وتصوير كل ما يدور علي مقربة منها .
وما يبدو لنا ، وما تجدر الإشارة إليه أن هذا النهم و التشوق لهتك الستر المجتمعي الذي تسببت فيه الثورة الرقمية قد صادف هوي ، و لاقي قبولاً لدي البعض ممن عندهم فضول ، ولديهم نزعة الجري وراء النقائص الأخلاقية ، والفضائح الاجتماعية ، كما أن تنافس بعض وسائل الإعلام في الاستباق نحو الخوض في تفاصيل الحياة الخاصة لبعض المشاهير من الفنانين والمطربين ولاعبي الكرة ، وذلك بغرض تحيق التريندات ، واجتذاب عديد القراء والمشاهدين ، وكان المساهم في كل ذلك بنصيب كبير الثورة الرقمية في جانبها السيئ الضار .
التحذير من الأجهزة الرقمية :
وما يجب التنبيه عليه والتحذير منه هو أنه لا أحد بمنأي عن هذا الهتك ، فأي شخص معرض لأن يري نفسه وهو متخفف من ملابسه وهو في غرفة نومه وصورته تملاً شبكات الإنترنت ، فما تبقي من خصوصية للإنسان ما زال يضيق ويضيق حتي وصل إلي حد مقاسات ملابسه الشخصية التي لا يتذكرها ، وأصبح بمقدور غيره أن يقف علي أدق تفاصيل حياته الخاصة .
كل هذه المخاطر تثير التساؤل عما إذا كانت التشريعات القائمة كافية لمواجهة الثورة الرقمية أم أنها تحتاج إلي تدخل تشريعي يمكن به كبح جماحها والحد من مخاطرها .
المواجهة التشريعية للثورة الرقمية
وفي هذا الإطار لا يمكن غض الطرف عن فاعلية التشريعات القائمة في هذا الشأن ونذكر منها القانون 175 لسنة 2018 بشأن تقنية المعلومات ، ولم تكن هذه الخطوة الأولي في مجال مواجهة الثورة الرقمية ، بل سبق ذلك العديد من التشريعات التي تناولت الثورة الرقمية السريعة ومنها قانون الأحوال المدنية رقم 143 لسنة 1994 ، وقانون حماية الملكية الفكرية 82 لسنة 2008 ، وقانون التوقيع الإلكتروني رقم 15 لسنة 2004 ، وقانون تنظيم الاتصالات والمعلومات رقم 10 لسنة 2003 .
ومع ذلك ومع كل هذه التدخلات التشريعية إلا أن الثورة الرقمية ما زالت في حاجة إلي ثورة تشريعية مقابلة ، لمواجهة جرائم التعدي علي خصوصية الحياة الخاصة .