يبدو إننا مجبرين علي السير في اتجاه نكون مضطرين فيه للتصديق بالخيال ، والتعايش فيه ، والتعامل معه ، فلا وجود لحقائق كاملة بالنسبة لكل الناس ، وما كان يعد خيالا في زمن أصبح حقيقة في زمن آخر ، وما يُعد خيال بالنسبة لبشر يُعد حقيقة لبشر آخرين ، فلا وجود كلي لحقيقة كاملة بل لتأويلات وخيالات ، وأريد بالخيال هنا ، ذلك الفعل الذهني الواعي الذي يجسد عالماً معيناً ، حتى وإن كان هذا العالم مجرد عالم خاص محدود .
وإلا لماذا كنا نصدق حكايات العفاريت التي كانت تُحكي لنا ، فكم من صديق لك يقص عليك قصته مع العفريت الذي يشاكسه ويعاكسه ، بل كم صديقاً لك يحكي لك عن زواجه من زوجة آخرى من عالم الجن ، وكم مرة ذهبت لشيخاً لعلاج قريباً لك من السحر ، نحن لم نر العفاريت ، ولم نر السحر ، ولكن رأينا آثارهما فعرفناهم معرفة قوية ، فأصبحا حقيقة مؤكدة لدينا .
ولماذا نذهب بعيداً فالسينما والفن عموماً خيال ولكنه كثيراً ما يصبح واقع ، فلا بد وأن التجربة الفنية التي تشاهدها وتعيشها تكون بالنسبة لك كرحلة خيالية لا تستيقظ منها إلا بإنتهاء التجربة ، فهذه التجربة ما هي إلا محاكاة وتقليد للواقع .
فأصبحت السينما ترسم خطوات الشعوب ، وتشكل وعي البشر ، وتضعهم علي الطريق الذي تريد أن تبعثهم إليه بدون شفقة ولا رحمة .
وعند اختراع الراديو وبعد ظهور الأجهزة المتقدمة منه كان الرجل ينزوي علي جنب ، ويضع الراديو علي أذنه ويغيب عن الواقع هائما مع أغنية للست أم كلثوم ، أو مقطوعة لفريد الأطرش ، وكنت تنادي الرجل فلا يرد عليك ، لأنه مشغول عنك وكأنه مختطف ذهنيا!!
ثم ظهر التلفزيون ودخل عليك في بيتك ، واقتحم غرفة نومك ليعرض عليك ما يريد عرضه بدون إحم ولا دستور.
فأصبحت تقضي كل وقتك بجواره ، وكنت كأنك درويش يلتزم المقام ولا يبرحه حتي يأخذ البركة .
فتعالت حينها أصوات المشايخ بتحريم مشاهدة التلفاز لتضيعه للوقت ، وإلهائه للناس.
وأخيرا جاء الفيس بوك ، وخلق لنا عالما موازيا نعيش فيه ويعيش فينا ،فنجامل فيه بأفراحنا ، ونبارك فيه نجاحاتنا ، ونعزي فيه مصائبنا ، ونقضي من خلاله حوائجنا ، ولكنه اختطفنا من عالمنا إلي عالمه بصورة مرعبة ، فظهرت فيه نجوم وآفلت فيه نجوم آخري .
وفي كل ما تقدم كانت خسائرنا قليلة ، ويمكن تعويضها ، فقد كان الشخص يغيب في عالمه الافتراضي ثم يرجع لبعض الوقت إلي عالمه الواقعي ، ويعود قليلا إلي حياته الطبيعية ،فيسترد بعض ما فقده .
أما ما نسمع عنه حاليا من تطبيقات جديدة ، وتقنيات مزهلة ، عن طريق (ميتا فيرس ) ، بخلق عوالم إفتراصية ، تأخذك لحياة ثلاثية الأبعاد ،فأعتقد أن ذلك أمر ينبأ بمخاطر كثيرة ، ويشي بمضار شديدة ، فإذا كنا من قبل كان يتم اختطافنا ذهنيا فقط ، إلا أنه فيما استجد من تقنيات فقد يتم اختطافنا ذهنيا و روحيا ونفسيا بكل حواسنا ومشاعرنا ، ولم يتبق لنا سوي لحمنا وعظمنا ، هذا إن تبقي منهما شيئ !!
فهذا العالم الإفتراضي سيأخذك إلي المستقبل لتعيش كما يعيش رجال أخر الزمان ، أو قد يعيدك إلي الماضي البعيد لتعيش مع أجدادك الذين لم تراهم من قبل .
وخطورة ذلك ما قد يعتريك من الغباب التام عن عالمك ، فأنت حينئذ مختطف ذهنيا وروحيا ونفسيا ، وليس ذلك وحسب بل ومقيد جسديا كذلك.
فمن غير المعقول أن يكون جسدك في واد وذهنك في واد آخر .
ولك أن تتخبل ماذا سيفعل بك هذا العالم الكبير حال تغييبك عن واقعك !!
أظن ستكون الخسائر فادحة!!
إذن فأنت حينئذ عبدا مسير إلي المجهول ، و إلي حين رجوعك بالسلامة من عالمك الإفتراضي فأنت لست أنت .
ما يحزن هو إننا دائما مفعول بنا ، فدخلنا عوالم الراديو والتلفاز والسينما والفيس بوك و(ميتا فيرس ) دخلنا فيها جهلاء ، وكما دخلنا فيها خرجنا.
وحتي لو اعترفنا بأن التجربة الفنية لا يمكن أن ترقي إلي الواقع مهما استخدمنا الأشياء المادية الحقيقية في التمثيل ، فلا يمكن أن يكون الخيال واقع ، فلا يمكن أن تكون صورة البحر هي البحر ذاته ، ولا يمكن أن تكون صورتنا علي سطح القمر هي دليل علي انتقالنا إلي سطح القمر .
إلا إننا لا يمكن أن ننفي كل حقيقة لهذا الخيال ولا يمكن أن نعتبره مجرد كذبة ، فمن الجور أن نمحو أي أثر لهذا الخيال ، فالبرغم من أن هذا الخيال هو صورة ذهنية واعية تجسد عالماً خاصاً ، إلا أنه يشكل مؤثر سريع وواسع المدي علي الواقع الذي نحياه ونعيشه .
فقد تكون الانفعالات والمشاعر التي نعيشها في هذا العالم الحقيقي ، ما هي إلا صدي للانفعالات التي نحس ونشعر بها في العالم الافتراضي ، فنتصرف علي أساسها وعلي أثرها في الواقع الحقيقي ، وإلا فما معني المحاكاة المتبادلة التي تطغي علي العالمين الافتراضي والحقيقي .
ومن ثم فمن غير المستبعد أن ينشأ عالم مواز نعيش فيه فترات تمتد لساعات طويلة ، ونسلك فيه مسالك شتي ، فنقوم فيه بأعمال مختلفة ، وأنشطة عديدة كالتي نقوم بها في عالمنا الحقيقي ، ومن ذلك التنزه والتسوق واللعب واللهو والدرس ، بل وأداء مهام الوظيفة ، ومن هنا فلا نستبعد أيضاً ارتكاب الجرائم التي يمكن أن تقع في العالم الحقيقي .
وإذا كانت الجرائم منها ما يكون علي النفس ، ومنها ما يكون علي المال ، فلا يمكن أن ندعي أن القواعد القانونية القائمة تعجز عن حماية النفس والمال من أي انتهاك يحدث في عالم الميتافيرس ، إلا أنه لا يمكن تجاهل أثر هذه التقنية علي الجريمة وخصوصيتها ، وذلك من حيث الإثبات ، والإسناد ، والاختصاص بالفصل فيها ، كما لا يمكن تجاهل الطابع الدولي لهذه الجريمة التي تقع في عالم افتراضي غير محدود تحكمه أنظمة عالمية من شبكات الإنترنت الدولية ، ومن غير المنكور تأثر ذلك بقواعد اقليمية القانون ، وعدم سريان القانون المحلي خارج حدود الدولة إلا في أضيق الحدود .
كل ذلك ما يدعونا إلي دعوة المشرع إلي التنبه إلي هذه المستجدات ، حتي لا نفاجئ بعواقب لا يمكن تداركها .