وسط حي “السيدة زينب”، بُنى ثالث مسجد وجامع بُنى فى عاصمة مصر الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص فى الفسطاط، وجامع العسكر فى مدينة العسكر، وتم تشيّده على مساحة 6 فدان تقريباً، لكي يُعبر عن رمز استقلال الدولة العباسية، حيث كان معهودًا في ذلك الوقت أن المسجد الجامع هو مركز العواصم الإسلامية، ولهذا السبب أمر أحمد بن طولون بتشيد المسجد الضخم “263 هـ ــ 877م” وإنتهى فى “265 هـ ـ 879م”، ووصلت تكلفته لـ 120 ألف دينار.
واستعان أحمد بن طولون بالمهندس “سعيد بن كاتب الفرغانى”، وكان في ذلك الوقت مهندس قبطى ماهر فى العمارة، وعهدَ إليه بن “طولون”، ببناء أهم منشآته، فبنى له أولاً قناطر بن طولون وبئر عند “بركة حبش”، لتوصيل الماء إلى مدينة القطائع.
قصص وروايات الأهالي حول بناء “مسجد بن طولون”
وقام “أوان مصر”، بعمل جولة تفقدية لـ مسجد “احمد بن طولون”، وقد وجدنا الأهالي تروي له قصص مختلفة فـ إستمعنا لقصص الأهالي الدائرة حول بناء المسجد فـ قال “مصطفى الجزار”، أحد أهالي المنطقة، عندما دخل أحمد بن طولون في الصحراء غاصت قدم فرس أحد غلمانه في الرمال فسقط الغلام فوقف “بن طولون”، ونظر فوجد فتق مكان قدم الفرس ففتح فأصاب فيه من المال ما بلغ مقداره ألفي دينار وهو ما سمي “المطلب” الذي شاع خبره، وكتب به إلى الخليفة المعتمد في بغداد يستأذن الخليفة فيما يصرفه فيه من وجوه البر، فبنى منه البيمارستان “مستشفى”، ثم أًصاب بعده في الجبل مالاً عظيماً “الكنز”، فبنى منه الجامع، وأوقف جميع ما بقي من المال في الصدقات.
وحكى “عبد العزيز متولي” لما أتم بناء المسجد رأى أحمد بن طولون في منامه كأن الله تعالى قد تجلى للقصور التي حول المسجد ولم يتجلى للمسجد فتعجب بن طولون، فسأل المعبرين، فقالوا: يخرب ما حوله ويبقى قائماً وحده، فقال: من أين لكم هذا، قالوا: من قوله تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا، وقوله صلى الله عليه وسلم : إذا تجلى الله لشئ خضع له.
وأضاف لما فرغ أحمد بن طولون من بناءمسجده أمر الحاشية بسماع ما يقوله الناس عنه من الأقوال والعيوب التي في المسجد، فـ قال رجل: ما فيه عمود، وقال آخر: ليست له ميضأة، وقال أخر محرابه صغير، فبلغه ذلك فجمع الناس وقال أما العمد فأني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إما أن تكون في مسجد أو كنيسه فنزهته عنها، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته عنها، وها أنا ابنيها خلفه وأمر ببنائها، أما المحراب فأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد خطه لي في منامي، وأصبحت فرأيت النمل قد طافت بذلك المكان الذي خطه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستكمل “إبراهيم الصولي”، لما ركبَ الامام”أبو يعقوب البلخي” المنبر فـ خطب في الناس، ودعا للمعتمد ولولده ونسى أن يدعو لأبن طولون، فـ أشار الأمير إلى غلامه بأن يضرب الخطيب خمسمائة ضربة بـ السوط، ولكن تذكر الخطيب “بن طولون”، قبل أن ينزل من على المنبر فدعى له وزاد بالدعاء، وعندما نزل الخطيب من على المنبر، نظر الأمير للغلام وأمره أن يستبدل الأسواط إلى دنانير.
أكبر مسجد في مصر
ويعد مسجد “أحمد بن طولون”، من أكبر مساجد مصر، وتصل مساحته 6 فدان ونصف واستخدم في بنائه الطوب الأحمر، وقد أُقيم على جبل “يشكر”، فـ كان أساسه في حدوده القبلية على صخر “الجبل مباشرة”، وفي حدوده البحرية فكانت أساساته على عمق 5 أمتار، ووضع تصميمه على مثال المساجد الجامعة التي لها صحن كبير مكشوف تحيط به أروقة ذات عقود، وبنى المسجد على شكل مربع تقريباً وطول ضلعه يصل إلى 162.25 متر × 161.50 متر، يشغل منها المسجد مع جدرانه مستطيلاً طول ضلعه 137.80 متر × 118.10 متر، ويتوسط المسجد “صحن”، مكشوف مربع تقريباً طول ضلعه 92 متر × 91 متر، ويحيط بالجامع من جوانبه القبلية والبحرية والغربية أروقة غير مسقوفة تعرف بالزيادات، وهي من المسجد وأسوار هذه الزيادات عاليه بسيطة، فتحت بها أبواب تقابل أبواب الجامع، تتوجها من أعلى شرفة مفرغة، كما فتحت بأسوار الجامع أبواب وشبابيك علوية، بينها طاقات مخوصة تتوجها من أعلى شرفات، وللمسجد 21 باب يقابلها نفس العدد في الزيادات، ويوجد في بعض الأبواب معابر خشبية قديمة بها زخارف مورقة، وسبب تعدد الأبواب كان لتسهيل الوصول إلى المساكن والأسواق التي كانت حول المسجد.
عمليات الترميم على مر العصور
المسجد مع مرور الزمن كان بدأ يتأكل، ولكن توالت يد الإصلاح والترميم في أكثر من مناسبة كان منها في عهد الخليفة “الحاكم بأمر الله”، الذي أنزل بالمسجد 814 مصحفاً، وفي عهد “العزيز بالله”، كان في وسط المسجد “فسقية” من الرخام تعلوها قبة مثمنة الشكل مذهبة ومحمولة على أعمدة من رخام وتعرضت سنة 986م، فأقام بدلاً منها قبة اُخرى سنة 995م، ولكن هذا التجديد لم يقوى مع مرور الزمن.
وفي خلافة “المستنصر بالله”، سنة 1077م، قد إجتاح مصر الوباء والقحط فنشعت جدران المسجد ولمَّ به الخراب، حينئذٍ لحقه الوزير “بدر الدين الجمالي”، وأصلح أركانه وقوم بنيانه، وفي سنة 1131م أمر الخليفة “الحافظ لدين الله”، ببعض إصلاحات بـ المسجد، وفي عهد “صلاح الدين الأيوبي” إختص المسجد بفريق من المغاربة استعمره أكثر من جيل، إلى أن تولى حكم مصر السلطان “الظاهر بيبرس”، فاتخذ ملحقات المسجد شونة للغلال سنة1263م، ثم كانت إصلاحات السلطان “حسام الدين لاجين” سنة 1296م، التي شملت بناؤه للسبيل الموجود بالنصف الشرقي من الزيادة القبلية والذي جدده السلطان “قايتباي” فيما بعد.
وفي “عهد الناصر محمد بن قلاوون”، فـ قد أنشأ بالمسجد منارتين أسطوانيتين على طرفي جداره الشرقي بناهما بالطوب، هدمت الأولى في القرن الثالث عشر الهجري، والثانية البحرية الشرقية في سنة 1933م لخلل بهما. وفي “عهد الظاهر برقوق”، أنشأ “عبيد بن محمد البازدار” سنة 1390م رواقاً بجوار المئذنة الكبرى، وجدد ميضأة بجانب الميضأة القديمة، ثم تلاه الشيخ شرف الدين المدني فأنشأ مصلى وتربة سنة1534م، وقد زالت إنشاءات البازدار والمدني في عمارة سور الزيادة الغربية سنة 1943.
وفي أيام “محمد بك أبى الذهب”، أنشأ بالمسجد مصنعاً لعمل الأحرمة الصوفية. وفي سنة 1847م حول “كلوت بك”، المسجد إلى ملجأ للعجزة، وظل كذلك حتى سنة 1882 حين أدركت لجنة “حفظ الآثار العربية”، المسجد فوجهت إليه عنايتها وقامت خلال الفترة من 1890م وحتى 1918م بإزالة الأبنية المستحدثة التي كانت بداخل الإيوانات، وهدمت بعض الدور التي كانت تحجب الوجهة الشرقية للمسجد، وأزالت الأتربة والأنقاض، وأصلحت القبة التي فوق المحراب والمنارة الكبيرة والمنارة البحرية الشرقية والمنبر والشبابيك الجصية وجزء من السقف، وحافظت على الزخارف الجصية.
وفي عهد “الملك فؤاد الأول”، سنة 1918م رغب في إعادة إقامة الشعائر الدينية بالمسجد فصلى فيه فريضة الجمعة وأمر بتخلية جوانبه وتتميم إصلاحه، فقامت اللجنة بتخلية الوجهة البحرية وفتح أبوابها، وإصلاح أسوارها وأزالت الأبنية المستحدثة بالزيادة القبلية، وأخلت قسم كبير من الوجهتين الشرقية والغربية، وبلطت أروقة الإيوانات الغربية والبحرية والقبلية، وأصلحت الزخارف الجصية بباطن العقود، والسبيل الموجود بالزيادة القبلية، وأزالت الأتربة من الزيادات ومهدتها ومعها والصحن، وأعادت بناء الرواق المشرف على الصحن من الإيوان الشرقي، كما عملت لجميع الأروقة سقف من الأسمنت المسلح برسم السقف القديم وغلفته بأخشاب أدخلت فيها الأجزاء القديمة، وأعادت تركيب الإزار الكوفي فيها، وبلغت تكلفة تلك الإصلاحات 40 ألف جنيه، كما بلغت تكلفة نزع الملكية 45 ألف جنيه.
وفي عهد الملك “فاروق الأول”، أُصلح كثير من الشبابيك الجصية كما أصلح المحراب المستنصري ونزعت ملكية بعض الدور التي تلاصق الزيادة الغربية بجوار المنارة الكبيرة وكذلك بقية الدور التي تحجب الوجهتين الشرقية والقبلية. أما آخر محاولات ترميم المسجد فكانت في عام 2005 حين قامت وزارة الثقافة المصرية بترميم زخارفه وافتتاحه كواحد من بين 38 مسجداً تم ترميمها ضمن مشروع القاهرة التاريخي، وقد أعلنت وزارة الثقافة أن إعادة ترميم الجامع تجاوزت تكلفتها 12 مليون جنيه.