«يا رب بلدى وحبايبي، والمجتمع والناس؛ اجعلنى شمعة تنور بالحب، والإخلاص، اجعلني دفعة قوية في عجلة الإنتاج، إخواتي تلبس، وتاكل، ولغيرنا ما نحتاج، اجعلني حبة تفرع، وتبقى فدادين سنابل، تحضن فروعها الأيادي، وتبوس جذورها المناجل، وابدر على الناس محبة وبسمة في كل دار، وإن مت اجعلني طوبة يعلو بيها جدار، لو كنتش أخدم بلادي تبقى إيه لزمتي»؛ كانت هذه كلمات أغنيته الوطنية «يا رب بلدي وحبايبي»، والتي ذكر منها وهو على فراش الموت جملة «وإن مت اجعلني طوبة يعلو بيها جدار»، قبل أن يرحل عن عالمنا بعد رحلة عطاء وطني. فلم يك مظهره الذي يوحي بأنه أجنبي غالبًا على عقيدته، وانتمائه لهذا الوطن، اللتان تغلبتا عليه؛ حين مر بأصعب اختبار يمكن لشاب أن يجتازه، فكان نعم الإنسان صاحب الفطرة السليمة، والوطنية الأصيلة، إنه البطل المصري سمير الإسكندراني الذي غادر إلى رحاب ربه ورحمته، السبت الماضي عن عمر ناهز 82 عامًا، وشيع في عدد محدود من أهله؛ فكان أحق بجنازة عسكرية، وشعبية؛ بعد مسيرة حافلة بالعطاء فنيًا ووطنيًا، ولم تأخذ بطولاته المخابراتية حيزًا من وعي الشعب المصري، وموقعًا في عقول جيل المستقبل من الشباب، والشباب الصغير؛ لنسلط في هذه السطور لمحة من ضوء على هذه الشخصية؛ ردًا للجميل، وتعريفًا برموز حُفرت على صخرة الوطنية المصرية، والتي لابد أن تُحفر في عقول أطفالنا، وشبابنا؛ حتى نفتخر بتلك الرموز، ونعلم أن نهر الوطنية، والعطاء، والتضحية، مستمر يجري في ربوع الوطن، كما سيستمر نهر النيل يجري بمياهه أبد الدهر.
نعي المخابرات
جهاز المخابرات العامة، نعى الفنان الراحل سمير الإسكندراني، في بيان له جاء فيه،: «إنا لله وإنا إليه راجعون المخابرات العامة المصرية تنعى بمزيد من الحزن والأسى الفنان سمير الإسكندراني، الذي قدم لوطنه خدمات جليلة جعلت منه نموذجًا فريدًا في الجمع بين الفن الهادف الذي عرفه به المصريون، وبين البطولة والتضحية من أجل الوطن رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جناته، وللأسرة خالص العزاء».
سمير الإسكندراني، من مواليد 8 فبراير 1938 في حي الغورية بالقاهرة، مطرب، وفنان، ورسام، والده كان يعمل تاجرًا للأثاث، وكان محبًا للفن وصديق لمجموعة من كبار الشعراء والملحنين مثل “زكريا أحمد، بيرم التونسي، أحمد رامي”، درس في كلية الفنون الجميلة، وبدأ تعلم اللغة الإيطالية بها، واستمر في تعلمها بعدما ألغيت اللغة الإيطالية من الكلية في مدرسة لتعليم الأجانب، والمصريين، ثم دعاه المستشار الإيطالي في مصر لبعثة دراسية إلى إيطاليا، وهناك ذهب لاستكمال دراسته بمدينة “بيروجيا” الإيطالية عام 1958 وعمره حينها عشرون عامًا؛ حيث درس وعمل بالرسم والموسيقى وغنى في فناء الجامعة .
تجنيد الموساد
الإسكندراني، لم تقتصر مسيرته على الغناء، والموسيقى، وإتقان عدة لغات فقط؛ بل امتدت إلى دور وطني ضد العدو الصهيوني إبَان فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وثقها موقع المجموعة 73 مؤرخين، المختص بتوثيق الأعمال الفدائية والبطولات العسكرية.
في عام 1958، ذهب الإسكندراني إلى إيطاليا للحصول على منحة دراسية في الأدب الإيطالي والفن التشكيلي، وكان يتميز حينها بالتحرر، وليس النموذج المحافظ المعروف به الشباب المصريين في الخارج، وهو ما جعله صيدًا للعملاء والجواسيس في إيطاليا، لكن الإسكندراني فطن لهذا.
في هذا الوقت، التقى الإسكندراني بشاب يدعى سليم في الجامعة، يتحدث اللغة العربية ومعه جواز سفر أمريكي، وكان جواز السفر الأمريكي آنذاك باعثا على الشكوك، أحس الإسكندراني بريبة نحو هذا الشاب وتصرفاته، وحيازته لأموال كثيرة لا تتناسب مع شاب في سنه ودراسته، فأخذ الحيطة منه، بل واستطاع خداعه.
وفي حيلة من الإسكندراني لمعرفة نوايا هذا الشاب، أفصح له أن جده كان يهوديًا وأسلم ليتزوج جدته، لكنه لم ينس أصله اليهودي، “وأكثر ميلا لجذوره اليهودية”، هنا سال لعاب سليم، ووقع في فخ “الثعلب”، وأفصح عن نواياه قائلا: “أنا أيضا لست مصريًا يا سمير، أنا يهودي”، حتى رتب له سليم لقاء مع شخص ألماني يدعى “جوناثان”، وسأله عن رأيه في النظام المصري بقيادة جمال عبد الناصر.
وفي تلك الأحداث، التقى سمير شقيقه سامي في إيطاليا وأبلغه بخطورة الأمر، وأن هناك خلية إسرائيلية جاسوسية تريد تجنيده بهدف جمع معلومات عن شخصيات بارزة في النظام المصري، ورصد تحركاتهم، فعاد إلى مصر، واستعان بوالده تاجر الموبيليا ليكون حلقة الوصل بينه وبين وكيل المخابرات الذي كان قد اشترى موبيليا من والده في وقت سابق.
شاب صغير
الإسكندراني، أخبر وكيل المخابرات بما دار معه، لكنه لم يأخذ حكايته على محمل الجد، فذكر ذلك في أحد التصريحات التليفزيونية، قائلًا،: “حكيت له ما مررت به ولكنه تحدث معي بعدم اكتراث وطلب مني أن أمر عليه وهو يضحك، فقلت له لن أمر عليه، ولكنه إذا أراد أن يعرف الحقيقة فعليه أن يقابلني في “جروبي” وتكون معه سيدة تبدو كأنها زوجته، هنا تغيرت لهجة الرجل وبدا أكثر حزما لأنه أدرك أنني مدرب فعلا والأمر خطير، وبعد ساعة تقريبًا تقابلنا في “جروبي”.
ذهب بعدها برفقة مسؤول الجهاز الاستخباري، إلى مبنى في مصر الجديدة، وهناك قابل ضابطا قدم نفسه بأن اسمه جعفر، وطلب الحديث معه، لكن الإسكندراني قرر عدم الحديث إلا في حضور الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد محاولات من الانتظار طالت نحو شهر ونصف، التقى الإسكندراني عبد الناصر، ودخل الرئيس جمال عبد الناصر، عليه وارتمى حينها في حضنه سمير، وحمل على تقبيل يده، وحينها سحب يده عبد الناصر وقال أستغفر الله يا ابني، وحكى له تفاصيل خطة الشبكة الإسرائيلية نحو النظام في مصر.
يذكر الإسكندراني عن هذا الموقف فيقول،: “تحدثت معه عن محاولة الكيان الصهيوني اغتيال المشير عبد الحكيم عامر بعد أن فشلت محاولاتهم لنسف طائرة “اليوشن 14” عام 1956، في الجو علي اعتبار أنه بداخلها وكانوا يجندون لتلك العملية جاسوسا مصريا اسمه “إبراهيم رشيد” كانت كل تقاريره مسئولة لأن ترسم للموساد تحركات المشير أولا بأول وكان مدير المخابرات الإسرائيلية وقتها يكرر طلبه دائما لتوافر معلومات أكثر عن تحركات المشير، أما الأمر الأخطر فهو محاولة الموساد اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر عن طريق وضع سم طويل المدى في طعامه خاصة انه كان يمثل الخطر الرئيسي علي إسرائيل حسب قول “إسحاق رابين” رئيس وزراء إسرائيل وقتها، ولكن وضع السم في طعام عبد الناصر لم يكن شيئا سهلا، فخططوا لتلك العملية عن طريق تجنيد طباخ يوناني يعمل في محلات جروبي بالقاهرة وكان هو المكلف بتلك العملية، وكانت الخطة علي حسب اعترافات هذا العامل نفسه بعد القبض عليه هي أن يراقب هذا الطباخ واسمه “جورج ايستاماتيو” مواعيد الحفلات الرسمية التي يتواجد فيها عبد الناصر وتشرف محلات جروبي علي خدمة الطعام والشراب فيها وكان دوره أن يضع سم طويل المدى لعبد الناصر في طعامه الخاص بحيث لا يأتي هذا السم بمفعوله القاتل إلا بعد ستة، أو سبعة أشهر وبالتالي يصبح من المستحيل اكتشاف تلك العملية؛ وهنا بدأ دور الدولة المصرية لإسقاط باقي أعضاء الشبكات الإسرائيلية بالاستعانة بسمير الإسكندراني.
ثمار التخابر
طوال الوقت كان سمير يشكو في خطاباته إلى “جوناثان” من احتياجه الشديد للمال، ويهدد، بالتوقف عن العمل، وفي الوقت نفسه كان يرسل لهم عشرات المعلومات والصور، التي سال لها لعابهم، وخاصة بعد نجاح سمير في اختبار روما الذي وضعه لهم الاسرائليين زادة الثقة أكثر فأكثر، فطلبوا منه استئجار صندوق بريد، ووصل ثلاثة الآف دولار داخل عدة مظاريف وصلت كلها، من داخل مصر، لتعلن عن وجود شبكة ضخمة من عملاء إسرائيل، تتحرك في حرية داخل البلاد وتستنفذ أسرارها.
بدأت خطة منظمة للإيقاع بالشبكة كلها؛ فاستكمل سمير الخطة عندما طلب منه إرسال أفلام مصوره أعلن خوفه خشية أن تقع في أيدي الجمارك ورجال الرقابة، فأرسل إليه “جوناثان” رقم بريد في الإسكندرية،وطلب منه إرسال طرود الأفلام إليه، وبدأت خيوط، الشبكة تتكشف شيئا فشيئا، لقد كانت أضخم شبكة تجسس عرفها التاريخ،ومعظمها من الأجانب المقيمين في مصر الذين يعملون بمختلف المهن، وأدركت المخابرات المصرية أنها أمام صيد هائل، يستحق كل الجهد المبذول وقررت أن تعد خطتها بكل دقة وذكاء وتستعين بقدرات سمير الفائقة، لسحق الشبكة كلها دفعة واحدة، في أول عمل من نوعه، في عالم المخابرات.
وبخطة ذكية وأنيقة، استطاع سمير إقناع المخابرات الإسرائيلية بإرسال واحد من أخطر ضباطها إليه في القاهرة، وهو “موسى جود سوارد”، الذي وصل متخفيًا، ولكن المخابرات المصرية راحت تتبع خطواته في دقة مدهشة، حتى توصلت إلي محل إقامته، والي اتصالاته السرية برجلين هما “رايموند بترو”، الموظف بأحد الفنادق، “وهيلموت باوخ” الدبلوماسي بأحدي السفارات الأوروبية، والذي ينحدر من أم يهودية، ويتولى عملية إرسال العمليات إلي الخارج، مستخدما الحقيبة الدبلوماسية بشكل شخصي، وبضربة مباغته، ألقت المخابرات المصرية القبض علي موسى، وتحفظت عليه، دون أن تنشر الخبر، أو تسمح للآخرين بمعرفته، وتمت السيطرة عليه ليرسل خطاباته بنفس الانتظام إلى الموساد، حتى يتم كشف الشبكة كلها، والإيقاع بكل عناصرها ، وكسرب من الذباب، انطلق في وجهه مبيد حشري قوي، راح عملاء الشبكة يتساقطون واحد بعد الأخر، والحقائق تنكشف أكثر، وأكثر، ودهشة الجميع تتزايد وتتزايد، ثم كانت لحظة الإعلان عن العملية كلها، وجاء دور الإسرائيليين لتتسع عيونهم في ذهول، وهم يكتشفون أن الثعلب المصري الشاب سمير الإسكندراني قد ظل يعبث معهم ويخدعهم طوال عام ونصف العام، وأنه سحق كبريائهم بضربة ذكية متقنة، مع جهاز المخابرات المصري، الذي دمر أكبر وأقوي شبكاتهم تمامًا، وفكروا في، الانتقام من الثعلب بتصفية شقيقه سامي، ولكنهم فوجئوا بان المخابرات المصرية قد أرسلت، أحد أفضل رجالها لإعادته من النمسا، قبل كشف الشبكة، وكانت الفضيحة الإسرائيلية عالمية، ونصرًا مصريًا كبيرًا، واستمع سمير إلي التفاصيل وهو يبتسم، ودعاه الرئيس جمال عبد الناصر، ليكافئه على نجاحه في تلك اللعبة؛ حيث نجح في إسقاط 6 شبكات تجسس؛ ومن ثم التسبب في إقالة رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي حينها “هرطابي”، -حسبما وثق موقع المجموعة 73 مؤرخين عسكريين-.
قدم الإسكندراني، مجموعة أغاني حفرت له اسما في وجدان الشعب المصري، منها: “يا رب بلدي وحبايبي”، “يا نخلتين في العلالي”، “النيل الفضي” ، “بناعهدك يا غالية”، “ابن مصر”، “في حب مصر”، “شباب الإنجازات”، “طالعه من بيت أبوها”، “يا نيل”، أوبريت “الغالية بلدي”، “اخترناه”، وأخيرًا أوبريت “تسلم الأيادي”.
وصية بطل
الدكتور سامي الإسكندراني شقيق سمير، قال إنه أوصى بتشييع جثمانه من مسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها، وأبسط الأمور إننا نصلى عليه في ساحة المسجد تباركا بها، مشيرًا إلى أنه كان فعالًا للخير في الخفاء، وكان الراحل يساعد أي إنسان في موقف ضعف أو اضطهاد وهذا هو الشق الإنساني الذي كان يفعله الراحل في الخفاء، وتلك من شيم الأبطال لا محالة؛ وشيع جثمان الفنان الراحل سمير الإسكندراني من ساحة مسجد السيدة نفيسة، وأدي صلاة الجنازة شقيقه الدكتور سامي الإسكندراني وابنتي الراحل نجوى ونيفين، كما شارك أيضا في أداء الصلاة كلا من الفنان هاني شاكر نقيب المهن الموسيقية والفنانة نادية مصطفي، وأعضاء بالنقابة؛ فله منا كل الرحمات، وتظل سيرته عطرة بدوره الوطني الكبير؛ ونأمل أن تدرس قصته البطولية في منهج دراسي لطلاب الإعدادية والثانوية؛ عله يكون نبتة انتماء، وولاء تغرس في قلوب أبناء مصر المستقبل.