تصدر البرنامج النووي الإيراني، بامتياز، قمة أولويات الاهتمام والتحرك الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي وإقليم الشرق الأوسط خلال العام 2021م، كما جاء تالياً لجائحة فيروس “كوفيد-19” ومتحوراته على الأجندة العالمية. ومن المرجح أن يحتفظ هذا الملف الحيوي بأهميته المتوهجة خلال العام الجديد 2022م.
وفي ضوء المعطيات المتعددة والمتداخلة ذات الصلة ببرنامج إيران النووي، نرى أن مسار هذا البرنامج في المستقبل المنظور سيكون رهناً بالقرار الذي سوف تتخذه طهران إزاء المحددات التي باتت حاكمة ومشكلة للبيئة الاستراتيجية الحالية، والتي تتمثل في ثلاثة عوامل رئيسية، هي:
أولاً: المعطيات الرسمية والشعبية في الداخل الإيراني؛ وثانياً: المخرجات المتوقعة من محادثات فيينا الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015م، وهي المحادثات الجارية بشكل مباشر بين إيران من جهة ودول (4+1) التي تضم كل من: روسيا الأتحادية و الصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا من جهة أخرى، وبمشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية؛ وثالثاً: تأثير إسرائيل المتزايد والضاغط بشأن منع إيران من حيازة القنبلة النووية.
الداخل الإيراني وأيديولوجيا الثورة.. “روح الخميني”
يُشكل العامل الداخلي أحد أهم العوامل المحددة، وليست المؤثرة فقط، لقرار طهران بشأن المسار المستقبلي لبرنامجها النووي.
وتشهد الساحة السياسية والعسكرية الإيرانية، منذ انتخاب الرئيس المحسوب على التيار المحافظ إبراهيم رئيسي في يونيو 2021م، تشدداً في الخطاب والسلوك السياسي بشأن برامج إيران وقدراتها النووية والصاروخية، وذلك على نحو ما ظهر جلياً في الموقف المتشدد وسقف المطالب المرتفع الذي تبناه الوفد المفاوض خلال الجولة السابعة من مفاوضات فيينا (29 نوفمبر-17 ديسمبر 2021م)، ثم في الجولة الثامنة من المفاوضات ذاتها والتي انطلقت في 27 ديسمبر وعُلقت مؤقتاً بسبب السنة الميلادية الجديدة وتستأنف الاثنين 3 يناير 2022م.
ويجد هذا التشدد تفسيره – من الناحية الأيديولوجية على الأقل- في رغبة النظام الإيراني بالظهور أمام الرأي العام الداخلي بتمسكه بطابعه الثوري ومبادئ الجمهورية الدينية التي أرساها المؤسس والمرشد الأعلى الراحل “روح الله” الخميني، الذي طالما ندد بـ”الاستكبار العالمي” وشدد على التمسك بالتصدى لغطرسة “الشيطان الأكبر” ممثلاً في الولايات المتحدة.
وقد عبر عن هذه الروح الثورية أو “روح الخميني”- إن جاز لنا التعبير- تصريحات القادة العسكريين خاصة في الحرس الثوري، على نحو ما برز خلال مناورات “الرسول الأعظم 17” التي أجريت على مدار خمسة أيام في الفترة من 20 إلى 24 ديسمبر المنصرم.
محادثات فيينا والمرونة البراجماتية.. “روح الاتفاق النووي”
شهدت الجولة السابعة من مفاوضات فيينا النووية موقفاً إيرانياً متشدداً، تمثل في طرح مسودتين جديدتين على طاولة التفاوض، اعتبرتهما دول (4+1) وكذلك الولايات المتحدة، محاولة من طهران لكسب الوقت والمماطلة من أجل تسريع وتيرة برنامجها النووي، لاسيما مع كشف الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن قيام إيران- بالتزامن مع انطلاق هذه الجولة التفاوضية في 29 نوفمبر الماضي- بتشغيل عدد إضافي من أجهزة الطرد المركزي في منشأة “كرج” النووية، ورفعها نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%، بالمخالفة لبنود اتفاق 2015م، كما اتهمت الوكالة طهران بتعمد إتلاف كاميرات المراقبة التابعة للمنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة في منشآتها النووية.
وبناء على ذلك، دعت “الترويكا” الأوروبية، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، إيران إلى التحلي بما وصفته بـ”روح الاتفاق النووي” لعام 2015م، والعودة لالتزاماتها بموجب الاتفاق، محذرة في الوقت ذاته من أن الوقت ينفد وأنه لن يبق سوى أسابيع وليس أشهر لإنقاذ هذا الاتفاق.
ووفقاً لتقارير إعلامية عربية- خليجية تحديداً- لم تنفها إيران بشكل رسمي أو غير رسمي، فإن المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي تلقى رسالة من البيت الأبيض تضمنت تذكير طهران بـ”روح الاتفاق النووي” وهو مفهوم صاغه وزيرا الخارجية السابقان؛ الاميركي جون كيري والايراني محمد جواد ظريف خلال مباحثات ثنائية جرت في الكواليس، وينص على أن تبحث واشنطن وطهران بعد تنفيذ اتفاق 2015م، قضايا أخرى، مثل: برنامج الصواريخ البالستية، والنفوذ الإقليمي لإيراني، ودعمها جماعات مسلحة في المنطقة.
وبحسب التقارير الإعلامية المشار إليها أعلاه، فقد طمأن ظريف وقتذاك كيري بأن المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس السابق حسن روحاني موافقان ضمنياً على تنفيذ “روح الاتفاق”، في حال رفعت واشنطن كل العقوبات مرة واحدة.
وعليه، فقد طلبت واشنطن في رسالتها الأخيرة من خامنئي، قبول تنفيذ “روح الاتفاق” وليس فقط الإصرار على نصه فقط، كما حدث خلال الجولة السابعة من المفاوضات النووية.
وفي ضوء ذلك، يمكننا تفسير الطلب المفاجئ وغير المتوقع من جانب الوفد الإيراني في محادثات فيينا بوقف المفاوضات التي كانت جارية في منتصف ديسمبر الماضي؛ وذلك من أجل العودة للتشاور مع طهران.
ومع استئناف المفاوضات عبر الجولة الثامنة في 27 ديسمبر، نجد أن تحليل الخطاب السياسي الرسمي الإيرانية يُظهر بوضوح التخلى عن نبرة التشدد التي كانت سمته في الجولة التفاوضية السابقة، وذلك سواء تصريحات وزير الخارجية أمير عبدالليهان، أو الناطق باسم الخارجية الايرانية خطيب زاده، أو نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية كبير المفاوضيين النوويين في فيينا باقري كني.
فقد غلب على مفردات هذا الخطاب الحديث عن إحراز تقدم في المفاوضات، ورغبة الجميع في التوصل لاتفاق، ووجود روح متعاونة بين الأطراف المتفاوضة وغير ذلك، وهكذا بدا الموقف التفاوضي لإيران متسماً بالمرونة البراجماتية، التي عبرت عن نفسها عملياً، بإعلان طهران عن التوصل لـ”مسودة مشتركة” يتم التفاوض عليها في فيينا بدلاً من المسودتين الإيرانيتين السابقتين اللتين كانت أكثر تشدداً.
إسرائيل تقرع طبول الحرب.. “الروح الشريرة”
دخلت إسرائيل بطريقة دراماتيكية على خط المفاوضت النووية في فيينا مع استئنافها في نوفمبر 2021م.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى الوقت الراهن، وجهت تل أبيب انتقادات حادة إلى هذه المفاوضات معتبرة أن إيران تستغلها من أجل مزيد من الوقت للوصول إلى العتبة النووية.
ورفعت إسرائيل من سقف تهديداتها، كاسرة ما كانت تعتبره إيران “لجاماً أميريكياً” لتل أبيب، حيث هدد مسئولون عسكريون وسياسيون إسرائيليون كبار بالاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية.
وهذا التهديد في حد ذاته سبق تكراره مراراً قبل ذلك، لكن الجديد هذه المرة هو الحديث عن امكانية أن تتحرك إسرائيل “غداً إذا لزم الأمر”، والأهم أن هذا التحرك سيكون “بمفردها” دون إذن مسبق من الولايات المتحدة، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت قال صراحة أنه لم يتعهد لإدارة الرئيس جو بايدن بـ”صفر مفاجأت” ضد إيران.
ورغم رد الفعل الإيراني المضاد للتهديدات الإسرائيلية، وإطلاق وعيد مماثل، وإجراء مناورات اواخر ديسمبر 2021، شملت محاكاة لقصف مفاعل ديمونة ومنشآت حيوية أخرى، إلا أن الخطاب السياسي الرسمي لطهران حمل في مضامينه نبرة قلق ورغبة في تجنب سيناريو المواجهة العسكرية بسبب كلفتها الاقتصادية والاستراتيجية الباهظة على إيران، وهو ما عبر عنه مصدر امني لوكالة “فارس” للانباء شبه الرسمية بقوله أن احتمال قيام إسرائيل بـ”عملية شريرة” ضد إيران هدفه افشال محادثات فيينا النووية، محذرا من التداعيات السلبية لمثل هذه “الروح الخبيثة” على الولايات المتحدة وعلى تعاون طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
مراد القول: مستقبل البرنامج النووي الإيراني أصبح على تقاطع طرق إستراتيجي تتجاذبه “أرواح ثلاثة”؛ فإما أن تلتزم طهران بـ”روح الخميني” الثورية وتتبنى موقفاً تفاوضياً متشدداً يقود إلى انهيار محادثات فيينا، ما يعني عملياً فوات أوان إنقاذ اتفاق 2015م وفتح الباب واسعاً لعمل “الروح الشريرة” بخيار عسكري كارثي العواقب على الجميع.
وإما أن تتحلى إيران بالمرونة البراجماتية المعهودة خلال العقدين الأخيرين، وتمضي قدماً بموقف تفاوضي متوازن محكوم بـ”روح الاتفاق النووي” وبنوده كاملة، بما يُفضي إلى التوصل لاتفاق قريب مع القوى الكبرى، يخرج دخانه الأبيض من قصر “كوبورج” حيث مقر المفاوضات في العاصمة النمساوية، مبدداً “الروح الشريرة”، وقاطعاً طريق حرب لا يريدها أحد ولن ينتصر فيها أحد ولن يربح منها أحد سوى “الشيطان الأصغر”.