لم تُعد الحماية المدنية كافية لحماية الحق في الميراث ، أمام حيل الامتناع عن تسليم كل وارث لنصيبه ، ومن هذه الحيل تغيير الواقع وإخفاء المستندات ، فلم يُعد الحكم بصورية التصرفات التي صدرت من المورث لأحد الورثة ، أو حكم الميراث في دعوي قسمة التركة أو الفرز والتجنيب ، أو الحكم لثلاثة أرباع الورثة بصحة البيع ، كل هذه الوسائل الحمائية في القانون المدني لم تقضي علي تزايد حالات الامتناع عن تسليم الميراث لمستحقيه .
نص التجريم :
ولذلك استحدث المشرع بالقانون رقم 219 لسنة 2017 المعدل للقانون رقم 77 لسنة 1949 بشأن المواريث تجريم كل صور الامتناع عن تسليم الميراث ، وهو ما أكدت عليه المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017 التي تنص على أنه ” مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أى قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من امتنع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث، أو حجب سندًا يؤكد نصيبًا لوارث، أو امتنع عن تسليم ذلك السند حال طلبه من أي من الورثة الشرعيين ، وتكون العقوبة في حالة العود الحبس الذى لا تقل مدته عن سنة .
ويجوز الصلح في الجرائم المنصوص عليها في هذه المادة في أي حالة تكون عليها الدعوى ولو بعد صيرورة الحكم باتًا، ولكل من المجنى عليه أو وكيله الخاص، ولورثته أو وكيلهم الخاص، وكذلك للمتهم أو المحكوم عليه أو وكيلهما الخاص، إثبات الصلح في هذه الجرائم أمام النيابة أو المحكمة بحسب الأحوال .
ولقد أثيرت مسألة مدى دستورية نص المادة 49 من قانون المواريث سالفة الذكر ، ولقد حسم الأمر بأن إضافة المادة 49 محل النزاع لا يمس المواريث ولا الأنصبة الشرعية التي هي محددة شرعاً، ولا يلزم أن تكون حصص التركة مفرزة أو مجنبة ، وبناء على ذلك فإنها لا تناقض أحكام الدستور.
المصلحة التي يحميها النص :
ويتضح من هذا النص أن المصلحة محل الحماية والتي يرمي المشرع إلي تجريم التعدي عليها هي الحق في استلام الميراث الشرعي ، وفقاً للنصيب الذي فرضه الشارع الأعظم ، ولقد أوضحت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 219 لسنة 2017 المشار إليه العلة من إصدار هذا القانون في قولها “بعث الله رسله بالرسالات السماوية التي أزالت عن الإنسان الحيف والظلم، وقررت له نصيبًا مفروضًا خالصًا، لا منة فيه لأحد ولا فضل، إلا أن ثمة تقاليد وأعرافًا بالية انتشرت في مجتمعنا تتناقض مع الصبغة الحضارية لهذه الأمة، ومنها الامتناع عن تسليم الورثة حقهم الشرعي في الميراث ، وإذ لم يتضمن القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث نصًا عقابيًا يضبط مسألة عدم تسليم أعيان التركة لمستحقيها ، الأمر الذى استلزم التدخل بنص عقابي لتجريم الامتناع العمدي عن تسليم محل الميراث .
ونشير إلي أن النص لا يمس أحكام المواريث لا من قريب ولا من بعيد، وأن هذه المادة لا تتحدث عن المواريث، ولا عن الأنصبة الشرعية ، لأن الأنصبة في المواريث محددة شرعًا ، وهي مسألة لا شأن لها بالنص الماثل الذى يتناول الجانب الجنائي للامتناع عن تسليم حصة الميراث ، بما لازمه أن المرجع في تعيين النصيب الشرعي في الميراث هي الأحكام الشرعية والقانونية المتعلقة بالمواريث، وهو ما أكدته المادة (875/ 1) من القانون المدني في نصها على أن ” :
1 – تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنها”، ومن بين هذه القوانين القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث، والقواعد العامة في القانون المدني، ومن بينها تلك الأحكام الخاصة بالميراث وتصفية التركة، وقسمتها سواء رضاءً أو قضاءً .
أهمية هذا التجريم :
وفي الحقيقة فإن هذا التدخل التشريعي جاء في وقته ؛ لأنه يعالج مشكلة تتزايد يوماً بعد يوم ، في ظل البعد السلبي لواقعة الامتناع عن تسليم النصيب الشرعي من الميراث لمستحقيه ، والسكوت عن الاعتراف بهذا الحق ، واستشراء الطمع بصورة سلبية تتمثل في الابقاء للتركة في حوزة طرف دون بقية المستحقين ، وذلك بالإيهام بأن ذلك لا يمثل جريمة ، ومن ثم فقد تدخل المشرع لكفالة الحماية العملية لتسليم النصيب الشرعي من الميراث لمستحقيه .
ولا شك في أن معالجة ذلك يمثل حماية للروابط الاجتماعية والعائلية في المجتمع بوصول الحق لمستحقيه وما يمثله ذلك من الحفاظ علي صلة الرحم ، وحماية العلاقات الأسرية .
كما أن تنظيم مسألة الميراث والعمل علي استقرار حصول كل طرف حقه من التركة أمر من أهم متطلبات العدالة ، وموجبات الاستقرار المجتمعي ، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق فرض الجزاء الجنائي علي من يمتنع عن تسليم الميراث لمستحقيه .
وبذلك يكون المشرع المصري قد جّرم كل صور الامتناع عن تسليم الورثة الشرعيين حصتهم الشرعية من الميراث، و حدد لهذه الجريمة عدة شروط يجب توافرها حتي يمكن للورثة اتخاذ الإجراءات القانونية التي تحفظ حقوقهم في الميراث، وأهم هذه الشروط هي وجود تركة مملوكة للمورث ، وأن تكون التركة أو الميراث تحت يد أحد الورثة أو فى حيازته ، ثم امتناع هذا الحائز عن التسليم لمن له حق الإرث .
و يشترط أن تكون هذه التركة مما يجوز توريثه ، بمعني أن تكون مالاً يجوز التعامل فيه ، وليس من الأموال التي يحظر التعامل فيها ، بمعني ألا يكون تداولها جريمة يعاقب عليها القانون ، ولا يهم بعد ذلك مقدار هذه التركة ، ولا نوعيتها ، فيستوي أن تكون هذه التركة عقارات مبنية أو غير مبنية ، كما يستوي أن تكون التركة عملات أو نقود أياً كانت نوعيتها ، فلا بد لقيام الجريمة من وجود تركة مملوكة للمورث ، وأن تكون هذه التركة تحت يد أحد الورثة أو فى حيازته .
كما يستوي أن تكون التركة مفرزة أو علي الشيوع ؛ حيث أن الامتناع عن تسليم النصيب الشرعي من الميراث، المؤثم بمقتضى النص محل التجريم جاء في عبارة عامة مطلقة تشمل جميع صور الامتناع، سواء وقع على الحصة الشائعة أو النصيب المفرز، ذلك أن كليهما يصح أن يكون محلاً للتسليم، بحكم صلاحية كل منهما لأن يحوزه حائز على وجه التخصيص والانفراد، ولا فارق بين الاثنين إلا في أن حائز النصيب المفرز تكون يده بريئة من المخالطة، أما حائز الحصة الشائعة فيده بحكم الشيوع تخالط غيره من المشتاعين، إلا أن ذلك لا يحول دون قابليتها للتسليم والحيازة، فملكية الحصة الشائعة بصريح نص المادة (826) من القانون المدني ملكية تامة، يجمع مالكها في يده جميع عناصر الملكية من استعمال واستغلال وتصرف، وينصب حقه مباشرة على حصته في المال الشائع، وبذلك يُعد الامتناع عن تسليمها أحد صور الامتناع المؤثم بموجب النص .
وذلك إلى جانب الصور الأخرى التي يكون محلها الامتناع عـن تسليم النصيب المفرز، سـواء كان ذلك بموجـب قسمة رضائية أو قضائية طبقًــا لأحكام القانون المدني أو غيرها، التي تمثل أحكام المواريث، وتصفية التركة وقسمتها جميعها، أيًّــا كان موضعها، التنظيم القانوني الحاكم لتحديدها، باعتبارها أحد عناصر الركن المادي لتلك الجريمة، المنوط بالمحكمة المختصة تحريه، وتفنيد الأدلة المثبتة له، وتكوّن من خلالها عقيدتها.
وتأخذ صور السلوك في جريمة الامتناع عن تسليم الميراث ثلاث صور هي :
الصورة الأولي : الامتناع العمد عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث ، سواء كان هذا النصيب علي الشيوع أو الحصة المفرزة ، ويقصد بالامتناع عن التسليم هو التسليم المادي المتمثل في التنازل عن الحيازة من الشخص الحائز للشخص الوارث ، والسماح لهذا الأخير بالسيطرة علي ملكه ، واستغلاله بأي صوره من صور الاستغلال .
الصورة الثانية : حجب السندات التي تؤكد نصيب الورثة كاحتجاز عقود ملكية المورث وخلافه .
قد يأخذ الركن المادي للجريمة صورة الحجب للسندات الدالة علي ملكية الوارث لميراثه ، يعني ذلك عدم الإظهار للمستندات التي تثبت ملكية المورث للتركة ، بما يعني ثبوت حق الورثة جميعاً لهذه التركة ، وليست من حق أحدهم ، ويثبت هذا الحجب في حق الجاني إذا ما قام أحد مستحقي الميراث بالمطالبة بالسندات التى تثبت حقه فى الميراث ممن تحت يده تلك المستندات وامتنع الأخير عن تسليمها، ويتحقق الطلب إما بتوجيه إنذار رسمي على يد محضر أو محضر إثبات حالة أو بخطاب مسجل بعلم الوصول .
الصورة الثالثة : الامتناع عن تسليم المستندات التي تؤكد نصيب الورثة كاحتجاز حجج وعقود ملكية المورث وخلافه ، والامتناع عن تسليم المستندات ، هو إعطائها للوراث لتكون في حيازته ، وفي هذه الجريمة اشترط المشرع لقيام هذه الجريمة أن يتحقق توجيه الطلب إلي الجاني ، وتحقق علم هذا الأخير اليقيني بهذا الطلب ، ويتم ذلك بتوجيه إنذار رسمي على يد محضر ، أو بخطاب مسجل بعلم الوصول .
والركن المادي في هذه الحالة يتمثل في حجب سند عن صاحب المصلحة فيه وبالتالي لا يتمكن من المطالبة بتسليمه نصيبه في الميراث ، ويدخل في معنى حجب السند إتلافه أو تسليمه لآخر من الورثة أو من غيرهم.
العقوبة المقررة لجريمة الامتناع عن تسليم الميراث :
وضع المشرع هذه الجريمة في موضع الجنحة ، حيث قرر أنه مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أى قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من امتنع عن عمدا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث .
وشدد المشرع العقوبة في حالة العود لتكون الحبس الذى لا تقل مدته عن سنة ، ويقصد بالعود هو تكرار ارتكاب الجريمة ، أو الإصرار علي عدم تسليم الميراث لمستحقيه .
ونوضح أن هذه العقوبة مقرره لأي صورة من صور الجريمة ، ومن ثم فإن عقوبة الامتناع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي فى الميراث، أو حجب سند الميراث أو الامتناع عن تسليمه حال طلبه من قبل أى من الورثة الشرعيين، هي الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر بالإضافة إلى غرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تتجاوز مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.