تزخر الأدبيات السياسية والإستراتيجية بالعديد من نظريات الأمن القومي عموماً، وتطبيقاتها في مختلف بلدان العالم، لكن لا نبالغ إن قلنا إن مصر لها نظريتها الفريدة للأمن القومي.
وقد أكد صانع القرار المصري خلال تعامله الفعال والرصين مع الأحداث والتطورات التي شهدتها المنطقة خلال الأشهر القليلة الأخيرة، هذه الخصوصية في نظرية وإستراتيجية أمن مصر القومي؛ والتي يمكن أن نطلق عليها مسمى استراتيجية “تمساح النيل” أو “الهدوء الصاخب”، والهادفة إلى تحصين الدوائر الجيواستراتيجية ذات الأهمية الحيوية البالغة لأمننا القومي.
كما تستهدف هذه الاستراتيجية تعظيم دور مصر التاريخي الوازن والحاكم في الشرق الأوسط، ومواجهة أي تحركات -علنية كانت أو سرية، راهنة أو مستقبلية- تحاول المساس بهذا الدور المركزي والقائد، أو الخصم منه بأي طريقة كانت، على غرار ما حدث لبعض الوقت في الماضي من جانب بعض القوى الإقليمية غير العربية التي تنافس مصر على مقعد الريادة في المنطقة.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن حديثنا عن صانع القرار يشير إلى القيادة السياسية المصرية ممثلة في الرئيس عبدالفتاح السيسي، وكذلك منظومة الأجهزة السيادية المعنية بالأمن القومي ببعديه الخارجي والداخلي، والمسئولة عن تزويد الرئيس بالمعلومات والبيانات، واقتراح البدائل المختلفة بمنتهى الشفافية والموضوعية، وهي الأجهزة المشهود لها بالكفاءة والوطنية، والغنية عن التلميح إلي دورها، ناهيك عن التصريح بأسمائها.
وتقوم إستراتيجية “تمساح النيل” للأمن القومي المصري على عدة ركائز أهمها ما يلي:
1. الرصد والتحليل الدائم والشامل والدقيق: لجميع النشاطات والتحركات الإقليمية والدولية، على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية: الإعلامية والدعائية، والمعلوماتية، والسياسية، والاقتصادية(المالية-التجارية)، والأمنية- العسكرية، والاستخباراتية؛ وذلك بما يضمن الفهم العميق لدوافع هذه التحركات وتلك الانشطة، واستنباط دلالاتها الإستراتيجية طويلة المدى من منظور الأمن القومي المصري.
2. الإدراك الواعي: لمعطيات البيئة الإستراتيجية الحاضنة لهذه النشاطات والتحركات.
3. التأني والصبر الإستراتيجي: اللازم للتنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية للتطورات الراهنة، وصياغة بدائل واقعية ليس فقط للتعامل المضاد الكفء مع تداعيات التحركات المناوئة، بل وإحباطها بشكل استباقي مدهش.
4. المبادرة إلى الفعل المؤثر والحسم الإستراتيجي: وفق التوقيت المناسب، واستناداً إلى دقة التنفيذ لبلوغ الهدف و/أو الأهداف المحددة سلفاً بناء على أولوياتها من منظور المصالح العليا لمصر.
5. حسن التمركز الإستراتيجي: استناداً إلى مبدأ التدرج وعدم استباق تطور الأحداث، مع الخفة والسرعة والمباغتة والدقة والقوة في الدفع بالثقل الإستراتيجي.
6. اليقظة الدائمة والتقييم المستمر والمراجعة المتواصلة: لمكونات هذه الإستراتيجية، في ضوء متغيرات البيئة الإقليمية (بما فيها المعطيات العربية) والدولية، وعلى ضوء المستجدات في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً وفي الأقاليم المجاورة والعالم على وجه العموم.
وفي تقديرنا أن إستراتيجية “تمساح النيل” الفريدة، أثبتت نجاحها الباهر عملياً، كما حدث في ملفين بالغي الأهمية للأمن القومي المصري، وهما: الملف الليبي حيث الجناح الغربي لأمننا الوطني، والجناح الشرقي لهذا الأمن كما عبرت عنه محورية دور القاهرة في التوصل للهدنة الأخيرة في قطاع غزة.
ومن المرجح أن تواصل هذه الإستراتيجية تحقيق نتائجها المميزة في ملفات أخرى على نفس الدرجة من الحساسية والأهمية لأمننا القومي، لاسيما ملف سد “النهضة” الإثيوبي.