«وإن مت اجعلني طوبة يعلو بيها جدار»، جملة من أغنيته المشهورة «يا رب بلدي وحابايبي» نطق بها قبل أن يرحل عن عالمنا بعد رحلة عطاء وطني. فلم يك مظهره الذي يوحي بأنه أجنبي غالبًا على عقيدته، وانتمائه لهذا الوطن، اللتان تغلبتا عليه؛ حين مر بأصعب اختبار يمكن لشاب أن يجتازه، فكان نعم الإنسان صاحب الفطرة السليمة، والوطنية الأصيلة، إنه البطل المصري سمير الإسكندراني الذي غادر إلى رحاب ربه ورحمته، قبل أيام عن عمر ناهز 82 عامًا، وشيع في عدد محدود من أهله؛ فكان أحق بجنازة عسكرية، وشعبية؛ بعد مسيرة حافلة بالعطاء فنيًا ووطنيًا، ولم تأخذ بطولاته المخابراتية حيزًا من وعي الشعب المصري، وموقعًا في عقول جيل المستقبل من الشباب، والشباب الصغير؛ لنسلط في هذه السطور لمحة من ضوء على هذه الشخصية؛ ردًا للجميل، وتعريفًا برموز حُفرت على صخرة الوطنية المصرية، والتي لابد أن تُحفر في عقول أطفالنا، وشبابنا؛ حتى نفتخر بتلك الرموز، ونعلم أن نهر الوطنية، والعطاء، والتضحية، مستمر يجري في ربوع الوطن، كما سيستمر نهر النيل يجري بمياهه أبد الدهر.
1- سمير الإسكندراني، من مواليد 8 فبراير 1938 في حي الغورية بالقاهرة، مطرب، وفنان، ورسام، والده كان يعمل تاجرًا للأثاث، وكان محبًا للفن وصديق لمجموعة من كبار الشعراء والملحنين مثل “زكريا أحمد، بيرم التونسي، أحمد رامي”، درس في كلية الفنون الجميلة.
2- بدأ تعلم اللغة الإيطالية بها، واستمر في تعلمها بعدما ألغيت اللغة الإيطالية من الكلية في مدرسة لتعليم الأجانب، والمصريين، ثم دعاه المستشار الإيطالي في مصر لبعثة دراسية إلى إيطاليا، وهناك ذهب لاستكمال دراسته بمدينة “بيروجيا” الإيطالية عام 1958 وعمره حينها عشرون عامًا؛ حيث درس وعمل بالرسم والموسيقى وغنى في فناء الجامعة .
3- لم تقتصر مسيرته على الغناء، والموسيقى، وإتقان عدة لغات فقط؛ بل امتدت إلى دور وطني ضد العدو الصهيوني إبَان فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وثقها موقع المجموعة 73 مؤرخين، المختص بتوثيق الأعمال الفدائية والبطولات العسكرية، وفي عام 1958، ذهب الإسكندراني إلى إيطاليا للحصول على منحة دراسية في الأدب الإيطالي والفن التشكيلي، وكان يتميز حينها بالتحرر، وليس النموذج المحافظ المعروف به الشباب المصريين في الخارج، وهو ما جعله صيدًا للعملاء والجواسيس في إيطاليا
4- أخبر وكيل المخابرات بما دار معه، في إيطاليا لمحاولة الموساد تجنيده؛ لكنه لم يأخذ حكايته على محمل الجد، فذكر ذلك في أحد التصريحات التليفزيونية، قائلًا،: “حكيت له ما مررت به ولكنه تحدث معي بعدم اكتراث وطلب مني أن أمر عليه وهو يضحك، فقلت له لن أمر عليه، ولكنه إذا أراد أن يعرف الحقيقة فعليه أن يقابلني في “جروبي” وتكون معه سيدة تبدو كأنها زوجته، هنا تغيرت لهجة الرجل وبدا أكثر حزما لأنه أدرك أنني مدرب فعلا والأمر خطير، وبعد ساعة تقريبًا تقابلنا في “جروبي”، ثم ذهب بعدها برفقة مسؤول الجهاز الاستخباري، إلى مبنى في مصر الجديدة، وهناك قابل ضابطا قدم نفسه بأن اسمه جعفر، وطلب الحديث معه، لكن الإسكندراني قرر عدم الحديث إلا في حضور الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد محاولات من الانتظار طالت نحو شهر ونصف، التقى الإسكندراني عبد الناصر، ودخل الرئيس جمال عبد الناصر، عليه وارتمى حينها في حضنه سمير، وحمل على تقبيل يده، وحينها سحب يده عبد الناصر وقال أستغفر الله يا ابني، وحكى له تفاصيل خطة الشبكة الإسرائيلية نحو النظام في مصر.
5- تحدث مع الرئيس عبد الناصر وكشف له عن محاولة الكيان الصهيوني اغتيال المشير عبد الحكيم عامر، وكذا محاولة الموساد اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر عن طريق وضع سم طويل المدى في طعامه خاصة انه كان يمثل الخطر الرئيسي علي إسرائيل حسب قول “إسحاق رابين” رئيس وزراء إسرائيل وقتها، ولكن وضع السم في طعام عبد الناصر لم يكن شيئا سهلا، فخططوا لتلك العملية عن طريق تجنيد طباخ يوناني يعمل في محلات جروبي بالقاهرة وكان هو المكلف بتلك العملية، وكانت الخطة علي حسب اعترافات هذا العامل نفسه بعد القبض عليه هي أن يراقب هذا الطباخ واسمه “جورج ايستاماتيو” مواعيد الحفلات الرسمية التي يتواجد فيها عبد الناصر وتشرف محلات جروبي علي خدمة الطعام والشراب فيها وكان دوره أن يضع سم طويل المدى لعبد الناصر في طعامه الخاص بحيث لا يأتي هذا السم بمفعوله القاتل إلا بعد ستة، أو سبعة أشهر وبالتالي يصبح من المستحيل اكتشاف تلك العملية؛ وهنا بدأ دور الدولة المصرية لإسقاط باقي أعضاء الشبكات الإسرائيلية بالاستعانة بسمير الإسكندراني.
6- استكمل سمير الخطة عندما طلب منه إرسال أفلام مصوره أعلن خوفه خشية أن تقع في أيدي الجمارك ورجال الرقابة، فأرسل إليه “جوناثان” رقم بريد في الإسكندرية،وطلب منه إرسال طرود الأفلام إليه، وبدأت خيوط، الشبكة تتكشف شيئا فشيئا، لقد كانت أضخم شبكة تجسس عرفها التاريخ،ومعظمها من الأجانب المقيمين في مصر الذين يعملون بمختلف المهن، وأدركت المخابرات المصرية أنها أمام صيد هائل، يستحق كل الجهد المبذول وقررت أن تعد خطتها بكل دقة وذكاء وتستعين بقدرات سمير الفائقة، لسحق الشبكة كلها دفعة واحدة، في أول عمل من نوعه، في عالم المخابرات، وتم ضبط 6 شبكات تجسس حينها، ما دفع رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي حينها “هرطابي” إلى تقديم استقالته.
7- قدم الإسكندراني، مجموعة أغاني حفرت له اسما في وجدان الشعب المصري، منها: “يا رب بلدي وحبايبي”، “يا نخلتين في العلالي”، “النيل الفضي” ، “بناعهدك يا غالية”، “ابن مصر”، “في حب مصر”، “شباب الإنجازات”، “طالعه من بيت أبوها”، “يا نيل”، أوبريت “الغالية بلدي”، “اخترناه”، وأخيرًا أوبريت “تسلم الأيادي”.
نعاه جهاز المخابرات العامة، في بيان له جاء فيه،: «إنا لله وإنا إليه راجعون المخابرات العامة المصرية تنعى بمزيد من الحزن والأسى الفنان سمير الإسكندراني، الذي قدم لوطنه خدمات جليلة جعلت منه نموذجًا فريدًا في الجمع بين الفن الهادف الذي عرفه به المصريون، وبين البطولة والتضحية من أجل الوطن رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جناته، وللأسرة خالص العزاء».