نكاد نقول في ظل التقدم المذهل في وسائل الاتصال وشبكات المعلومات أن الإنسان أصبح كتاب مفتوح ، بدون أي خصوصية أو أسرار ، سواء الأسرار المتعلقة بحياته ومعيشته ، أو الأسرار المتعلقة بجسده وصحته ، ويمكن لأي شخص معرفة أدق تفاصيل حياته الخاصة ،وليس ذلك وحسب بل وتفاصيل شريط جيناته الوراثية .
فإذا كان الإنسان عبارة عن كتاب مفتوح ، فقد تم قراءته شكلاً وموضوعاً ، وتم معرفة عناصره و موضوعه ، وما بين سطوره ، وما تحمله أفكاره .
فأصبح من السهولة بمكان مراقبة الشخص صوتاً وصورة ، عن طريق الوسائل الإلكترونية ، وتسجيل كل همسة أو لمسة ، أو لفظ يلفظ به ، أو فعل يقوم به ، أو خطوة يخطوها ، أو حتي الفكرة التي تطرأ في رأسه ، فكل ذلك أصبح مرصود رصداً تاماً سواء أكان ذلك بإرادته أو بغير إرادته .
ولم يُعد أي أحد ممن يمتلك وسائل الاتصال الحديثة بمنأي عن هذه المراقبة الصارمة ،وذلك لما توفره تقنيات المراقبة الإلكترونية من تلصص تلقائي علي من يستخدمونها بدون أي عناء .
كما كشفت الجينات الوراثية عن إنها تتضمن معلومات عن الإنسان هي جد في منتهي الخطورة تتعلق بجوهر حياة الإنسان وبميوله الشخصية ونفسيته وذكائه وحالته الصحية وأحتمالات مرضه ، وما يعاني منه من خلل جسدي أو نفسي في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فبمقدور الجينات تحديد هوية الشخص والإفصاح عن ملامحه وصفاته ، ولا يتعلق ذلك بالشخص وحده بل وأقاربه الذين تتوافر لديهم مثل هذه الجينات .
وإلي هذا الحد وتكون جريمة انتهاك خصوصية الإنسان ليست بالقدر الكبير من البشاعة ، ولكن البشاعة ذاتها تتوافر حينما يتدخل البحث العلمي النهم للعبث في الصفات الوراثية للإنسان ، فتتصاعد المخاوف تغيير الصفات الطبيعية للإنسان عن طريق ادخال تعديلات في منظومته الجينية علي أمل أن يصبح أكثر ذكاء أو أكثر جمالاً أو قوة أو صحة .
ولا شك أن هذه الثورة المذهلة في الجينات الوراثية ، وكغيرها من الثورات العلمية تحدث فجوة واسعة بين الواقع وبين المنظومة القانونية التي لم تستعد بعد لمواجهة مخاطر هذه السلوكيات ، فثورة الجينات الوراثية كما هو الحال مع أي ثورة تكنولوجية جديدة تنتج عنها بعض القضايا الأخلاقية المزعجة التي تحتاج إلي حلول عاجلة وحاسمة، لا سيما وأن فهم تسلسلات الجينات الوراثية التي تتحكم في مجريات حياة الإنسان يحمل مفتاحا لفتح ابواب موصدة تتوارى خلفها أسرار الحياة البشرية ذاتها .
وعلى مدى تاريخ البشرية كانت هناك مخاوف من أن يلعب الإنسان دوراً يتجاوز ما هو مسموح له ، غير أن هذه المخاوف قد تزايدت في الأعوام الأخيرة عندما تجرأ الإنسان ، وازداد نهمه العلمي ، سيما بعد نجاح عمليات استنساخ الحيوانات وانتشار الأطعمة المعدلة وراثياً ، فازداد هذا النهم تجاه هذا المجال .
وما يزيد هذه المخاوف التي تتم بالعبث في الجينات البشرية أن العلماء أنفسهم لم يستوعبوا التداعيات التي ستنجم عن اكتشافاتهم في مجالات الجينات الوراثية ، لا سيما وأن بعض تلك التداعيات قد تكون بمثابة كارثة علي الإنسان في هذا الزمان .
ذلك ما يدعونا إلي دعوة المشرع المصري الذي فضل أن يترك هذا الأمر للقواعد التقليدية ، ندعوه إلي إصدار تشريع خاص مفصل يواجه فيه كافة الفروض التي قد تنتجها مخاطر انتهاك الخصوصية الجينية ، من حيث فحصها بغير مقتضي قانوني ، أو إفشاء معلومات الفحص ، أو استخدامها استخدام غير مشروع ، ولعل هذا التشريع ليس بدعة من التشريعات فقد سبقتنا إليه دول أوربية وعربية .