4 سنوات مرت على ذكرى رحيل جدى علام باشا عبد الحافظ، الخادم والمُحب لآل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم تكن تمر مناسبة لآل بيت النبى إلا كان أول الحاضرين والمنظمين والمُحبين، فقد كان دائم الزيارة لسيدنا الحسين والسيدة نفيسة والسيدة زينب، ولأولياء الله الصالحين – رضى الله عنهم أجمعين – كغيره من أبناء جيله في صعيد مصر الذين كانوا يقطعون مئات الكيلو مترات للزيارة والخدمة بإخلاص تام قاصدين وجه الله تعالى.
فقد تعلمنا على يد جدى علام عبد الحافظ – مع حفظ الألقاب – أنه ما من أمنية يتمناها المرء في حياته أعظم من العمار، بينك وبين ربك، وبينك وبين المُحبين، وبينك وبين ذلك الخل الوفي، وبين ذلك السارح الممسك بمسبحته الأنيقة، ولحيته المهذبة، وعمامته التي تفوح بعطر خافت، يستغفر ويحمد ويدعو الله تعالى، عساه يريح ذلك القلب المجهد والروح الثائرة والتائهة في آن واحد حتى ارتقت روحه لعبد متصوف غزل الحب والعشق كما يُغزل الحرير في البلد الطيب الذى يخرج نباته بإذن ربه.
عند رحيل الشيخ علام عبد الحافظ، نعاه القاصى والدانى بأعظم الكلمات المؤثرة، ولكن يبقى نعى الروائى والإعلامى الكبير محمد موافى عالقا في الذاكرة، فقد دون على صفحته الشخصية: “أكلتُ في بيته، شعرت أني في بيتي، كريم وعمامته منسوجة من خيوط الجود، وفوق الموجود جاد علينا، كما يليق بأسيوطي كريم، قبل سنوات سبقت ابتسامته كرمه، وسبق كرمه ابتسامته، كان ابنه يبذل كل ما في وسعه لاستضافتنا، وكان يلوم ابنه لأنه يجب أن يكن هناك المزيد”.
وتابع “موافى”: “هذا الرجل، رأيت فيه أبي وجدي القادم من أسيوط، ورأيت في أبنائه إخوتي، ورأيت في ابن أخيه شبها من أهلي، فهو صعيدي، شبه الأرض الخصبة، ورجل شبه جبال أسيوط الصلبة القوية، مات ولم يعلم أني رسمت وجهه في روايتي (حكاية فخراني)، ووصفت النيل أمام بيته الكبير.. الوداع يا كبير.. أنا حزين، وعزائي لي لأنني أحد أبنائه، رحمك الله، وبارك لك في سفرك يا حاج علام” – انتهى نعى “موافى”.
رحل علام عبد الحافظ وقد ترك إرثا لذريته وأحفاده من بعده يتفاخرون به في أوساط الناس – بارك الله في ذريته – فلم يكن الرجل يعلم بابا للخير موصلا لرضا الله تعالى إلا طرقه، لم ننسى ابتساماته المعهودة التي كان يوزعها على من مر به، ولا ضحكاته التي لا تغيب عن البال، فأينما حل “الشيخ علام” حل معه الفرح والحب وانبثقت من حوله الخيرات دون توقف من وسط الأحزان، فلا حزن في وجود “الشيخ المُحب”، فإذا حضر في جنازة تحولت لفرح بوجوده، واجتمع حوله الكبير والصغير يتسامرون حتى الصبح، إلا أنه وسط كل هذا لم تفارقه مسبحته يضحك وهو يذكر الله، ينصح وهو يحمد الله، حتى حينما يغضب، فكان يستغفر الله، لماذا؟ لأنه مولانا العاشق الشيخ علام.
بمجرد دخولك قرية “بنى محمد”، بمركز أبنوب، محافظة أسيوط، وذكرت أسم الشيخ علام عبد الحافظ، استقبلك أهل البلدة استقبالا مشرفا لن تنساه، فأنت من طرف (مولانا الشيخ علام)، فقد تربى “مولانا الشيخ علام” في بلدة، الطريق إليها غير معبَّدة، لكنها محفوفة بالكرم والعطاء، مساحات أراضيها الخضراء تفصل بين البيوت، لكنها لم تفصل يومًا بين قلوب أصحابها، فهو من هو رجل قلما يجود الزمان بمثله من لم يعرفه فقد فاته الكثير، ومن عرفه فكم شعر بقسوة الرحيل، فهو يبدو مثل قديس شاب، أو ملاك تاه عن طرق السماء، فهبط إلى الأرض بلا قصد، ليعيش حينا بين الناس.
أما أنا فقد حالفنى الحظ أن يختارنى جدى – الشيخ علام – منذ الصغر في زياراته وجولاته، فكان يُخبرنى حين يذهب لفلان سأكون برفقته، وكان أبى – أطال الله في عمره – يردد ويقول: “يا بختك يا علاء، هتكون برفقة مولانا”، فكان هذا الرجل ليس فقط جدى ولكن كان صاحبى، الذى كنت انتظر انتهاء يومه الشاق بالزيارات وأداء الواجب حتى نغلق علينا الباب، واسمع منه الحكايات والقصص عن الجدود والجذور، فكان قصاصا لا يضاهيه قصاص، وفى الأخير أردد قول أبوتمام:
هَيهَاتَ لا يَأتي الزَّمانُ بمثلهِ
إن الزَّمَانَ بمثله لَبَخِيلُ!!