يبقى نصر السادس من أكتوبر عام 1973م بصورته الكبرى وتفاصيله الدقيقة، ملهماً لمصر وأجيالها المتعاقبة منذ سبعينيات القرن الماضي.
إن نصر أكتوبر، الذي نحتفل بذكراه التاسعة والأربعين، يتجاوز كونها عملاً عسكرياً محضاً على أرض سيناء فقط، ليُشكل بانوراما ملحمة وطنية كأحد الفصول التاريخية لـ “كفاح شعب مصر”، ويستوجب ذلك منا توسيع نطاق ومدى رؤيتنا لهذا النصر المجيد، بحيث لا ننظر إليه- كمصريين- باعتباره جزءا من ماضٍ مر وانتهي- كما يزعم البعض- فنهمله ونقصر اهتمامنا به على الجوانب الاحتفالية فحسب، بل يجب علينا أن نستلهم عبر هذا الحدث المفصلي ودروسه، ونجسد قيمه الوطنية ونتحلى بها في حاضرنا ومستقبلنا.
كما ينبغي أن يكون تعاملنا مع نصر أكتوبر على أنه “مشروع حضاري” متواصل وليس مجرد مشهد تاريخي عابر، فهو مشروع متكامل الأركان الإنسانية، والمعنوية، والمادية؛ ذلك أن “مصر أكتوبر 73″، هي مصر، الدولة والمجتمع، التي تحركت بتناغم وتماسك وطني فريد على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والشعبية كافة.
كذلك، من الأهمية بمكان أن نكون على وعي تام بأن فض “الاشتباك العسكري” مع إسرائيل الذي أعقب وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب ومهد للسلام، لا يعني فض “الاشتباك الاستراتيجي” معها، بكافة مستوياته الفكرية، والحضارية، والثقافية، والعلمية، والاقتصادية، وغيرها.
“السلاح الثلاثي” للنصر وضمانات فعاليته للعبور إلى المستقبل
في تقديرنا أن “تحولات القوة” التي أحدثتها مصر في حرب أكتوبر المجيدة في مواجهة إسرائيل وعلى مدار مراحل التخطيط الاستراتيجي الشامل لبلوغ النصر، ارتكزت إلى ثلاثة أسلحة نوعية فائقة، هي: الانسان المصري (الجندي والمواطن)، والمعرفة الشاملة المرتكزة إلى المعلومات الدقيقة، والغيرة الوطنية.
وحجر الزاوية والعمود الفقري لهذا السلاح الثلاثي هو الإنسان (الجسد/ الثروة البشرية)، المتسلح بالمعرفة السليمة الواقعية (العقل)، والمندفع بالغيرة على وطنه وأرضه (الروح).
ويرى كاتب هذه السطور- مثل كثيرين غيره من المصريين- أن هذا السلاح الذي حقق النصر في ميدان المعركة في 73، كفيل أيضاً بمواصلة تحدي التنافس الاستراتيجي في إطار السلام وحمايته.
لكن المحافظة على كفاءة وفعالية هذا السلاحن تقتضي العمل على توفير قدرٍ عالٍ من الضمانات لصيانة وشحذ مكوناته الثلاثة.
ووفق هذا الطرح الاجتهادي، فإن هذه الضمانات ينبغي أن تتسم بالشمولية، والتكامل، والديمومة، والمراجعة المستمرة؛ من أجل سد النقائص، وتعظيم الفوائد التي تظهرها الخبرة العملية بمرور الزمن.
كما أن تلك الضمانات هي مسئولية مشتركة بين كافة مكونات الدولة والمجتمع المصري، وإن وقع الجانب الأكبر والأهم منها على عاتق منظومة مؤسسات وأجهزة الدولة بمختلف تخصصاتها وتنوع اختصاصاتها.
كذلك فثمة ضرورة أن تكون ضمانات حفظ فعالية السلاح الثلاثي للنصر، عاكسة لرؤية وطنية جامعة تستشرف مستقبل مصر خلال نصف القرن المقبل على أقل تقدير، والتي يمكن أن نطلق عليها مبدئياً (مصر2075م).
ونوجز فيما يلي الضمانات الرئيسية التي نرى أنها كفيلة- بإذن الله تعالى- بالحفاظ على “سر النصر” لمصر حاضراً ومستقبلاً.
أولاً- تعظيم الاهتمام بالثروة البشرية ومنحها أولوية استراتيجية:
أثبتت حرب أكتوبر بما لا يدع مجال لشك أو جدال، أن الإنسان هو الكنز الحقيقي لمصر، مما يتوجب معه ضرورة تبني رؤى مبدعة وسياسات ناجعة تقوم على النظر إلى عدد السكان المتزايد باعتباره ثروة وطنية يجب استثمارها وليس عبئاً يتم تهميشه وتحميله وزر المشكلات التي يواجهها الوطن.
وفي هذا الإطار ينبغي مواصلة الجهود التي تجعل من تنمية الإنسان معنوياً وصحياً وتعليمياً وعلمياً وثقافياً، والعمل على تطوير مهاراته باستمرار وليس على نحو عرضي، ليواكب التطورات المتسارعة في شتى مناحي الحياة.
فالمصريون هم “الذخر الاستراتجي” للوطن، وهم الذين إن أُحسن إعدادهم وتوفير الامكانات اللازمة لهم يصبحون بحق “ذخيرة” الدفاع عن مصر في المستقبل وحماة أمنها القومي والذود عنها ضد كل متربص أو عدو.
وليس أدل على ذلك من اعتراف قادة إسرائيل ومن بينهم أرئيل شارون بأن الجندي المصري كان هو المفاجأة الحقيقية التي أصابتم بالذهول في حرب أكتوبر، حين واجهوا جندياً جديداً مختلفاً.. جندياً مؤهلاً ومدرباً يمتلك روحاً وعزيمة لا مثيل لهما.
ثانياً- ضمان استمرارية الإمداد المعلوماتي والتراكم المعرفي:
من المتفق عليه أن المعلومات الدقيقة والمعرفة العميقة بقدرات إسرائيل ومتغيرات البيئة الإقليمية والدولية شكلتا ركيزة بالغة الأهمية لنصر أكتوبر73، وذلك نحو ما عرضنا له عند الحديث عن منظومة الاستخبارات المصرية ودورها في الإعداد لهذا النصر المجيد وتأمين متطلباته.
ومن ثم، فإنه في مقدمة الـ”ينبغيات”- إن جاز لنا التعبير- لمواصلة معركة التنمية والبناء حالياً ومستقبلاً أن يتعاظم ويتواصل الاهتمام بالمعلومة والمعرفة في جميع القطاعات في الدولة والمجتمع؛ لأنه من شأن ذلك ضمان التالي:
1. مواكبة التنافس المحموم في عالم الاستخبارات والمعلومات في القرن الـ21.
2. تأمين الجبهة الداخلية من الشائعات المغرضة، وتحصين المواطن ضدها من خلال إمداد الرأي العام بصفة مستمرة بالمعلومات الشفافة والموضوعية والمتكاملة من مختلف وزارات وأجهزة ومؤسسات الدولة.
3. تعزيز ذخيرة الخبراء والباحثين والمثقفين بالمعلومات التاريخية والمعاصرة، على نحو يمكنهم من خوض معارك الاشتباك الفكري ذات الصلة بأمن مصر القومي ومصالحها العليا، بكل ثقة واقتدار.
ويتصل بذلك، ضرورة إجراء “مكاشفة تاريخية” بشأن الأحداث المصيرية الكبرى في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، مع التحلي بالجرأة والموضوعية في هذه المكاشفة، بما يبدد الكثير من الغموض ويزيل التضليل أو التشويه المتعمد لبعض الأحداث التاريخية.
ثالثاً- تعزيز (الغيرة الوطنية) في الأجيال الحالية والقادمة:
مثلت الغيرة على الوطن وترابه الوقود الرئيسي لجهد الجندي المصري في معركة استعادة سيناء في السادس من أكتوبر عام 1973م، ويظل صحيحاً أيضاً أن مثل هذه الغيرة ستبقى هي الروح التي يتوجب علينا الحفاظ عليها في نفوس المصريين جيلاً بعد جيل، لتكون المدد المعنوي لهم نحو مستقبل أفضل.
ولكي تظل جذوة الغيرة الوطنية الإيجابية متقدة لدي أجيالنا الحالية والمقبلة، يُقترح التالي:
1. السعي لبلوغ الفهم الصحيح للوطنية باعتبارها الانتماء والولاء للدولة المصرية والغيرة عليها، وليس الانحياز لنظام أو حزب سياسي ما، أو لفئة أو جماعة أيديولوجية معينة، أو تمجيد زعيم ما؛ فالدولة الوطنية المصرية هي الباقية وما عداها زائل.
2. تشجيع التفكير النقدي، وتقبل الأراء المعارضة بصدر رحب، بل والاستفادة منها في تعزيز مسيرة الوطن، طالما أن بها ما يُفيد من حيث المضمون، وانها تصدر وفق منهج علمي رصين وأسس فكرية واضحة، وتُطرح بأسلوب موضوعي راقٍ بعيداً عن الشخصنة أو التجريح.
3. التخلي عن “احتكار الوطنية”، والابتعاد عن تبني المفاهيم الرديئة في وصف المخالفين في الرأي أو الطرح، من قبيل: “الخيانة” ونحوها بهدف إسدال ثوب الوطنية على الذات ونزعه عن الأخرين من أبناء الوطن، ويعني ذلك أن يبقى باب خدمة مصر وصون مصالحها وتطوير مسيرتها مُشرعاً أمام جميع أبنائها دون تمييز أو تفرقة تحت أي مسمى أو عنوان.
خاتمة:
مؤدى القول أن: (الإنسان.المعرفة.الوطنية) هي “ثلاثية أكتوبرية” تماثل الأهرامات عدداً، وتضاهيها عظمة.. فهي الثلاثية المكونة لـ”سر النصر” في الماضي والحاضر والمستقبل.
ما بعد الخاتمة:
الله تعالى أسأل أن يُديم حفظه ورعايته لوطننا الحبيب الغالي، وأن يجعل مسيرته دوما في تقدم ورقي، وأن يرد عنه كل كيد ومكر.. كل أكتوبر والقاهرة “ظاهرة” على أعدائها، مُؤيدة بأبنائها وأشقائها.. كل أكتوبر والمصريون بخير وفي خير.. ولتبقي أبد الدهر عظيمة يا مصر.