مصر و «تحول القوة».. نصر اكتوبر المجيد نموذجا ( 4 – 6 )
يُمكن النظر إلى حرب السادس من أكتوبر عام 1973م باعتبارها “الإشارة المانعة” أو “إشارة الطريق المسدود” التي وضعت بها القوات المسلحة المصرية حداً نهائياً لمساعي إٍسرائيل المستمرة منذ عام 1948م لترجمة مدركاتها التأسيسية الزائفة الرامية إلى تغيير الخارطة الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط، ومحاولة القفز إلى مكانة “الدولة المركز” في الإقليم.
فقد بددت حرب أكتوبر المجيدة الأوهام الإسرائيلية بإمكانية تحقيق “تحول في القوة” باستخدام الأداة العسكرية ضد مصر باعتبارها “الدولة القُطب” و”الدولة القائد” تاريخياً في المنطقة، إذ تكرست هذه المدركات المتوهمة لدى القادة العسكريين والسياسيين في إٍسرائيل بعد حرب يونيو 67 على نحو خاص.
حرب اكتوبر الحدث الأكبر
ومن ثم، كانت حرب 6 أكتوبر 73، هي الحدث الأكبر الذي استخدمت فيه القاهرة- للمرة الأولى- ديناميكية مختلفة لـ”تحول القوة”، ففي هذه المرة تم التعامل مع هذا المفهوم الاستراتيجي بالمعنى المعاكس أو السلبي.. بعبارة أخرى، لم تكن مصر في تلك اللحظة التاريخية المفصلية هي المبادرة إلى تحقيق “تحول القوة”، بل كانت هي من أحبطت محاولة إسرائيل تحقيق هذا التحول على مستوى الشرق الأوسط، والذي لو تحقق لكان غير وجه الخارطة الشرق أوسطية جذرياً وإلى غير رجعة، وربما بشكل أسوأ الالاف المرات لما حدث نتيجة اتفاقية “سايكس-بيكو” في الربع الأول من القرن العشرين.
وليس أدل على هذا الاستنتاج من الشهادات الإسرائيلية – التاريخية والمعاصرة- أجمعت على أن حرب أكتوبر – أو كما يطلقون عليها “حرب يوم كيبور”- كانت عن استحقاق وجدارة هي الزلزال الأعظم “التسونامي” الذي غير هز الشرق الأوسط في القرن الماضي.
ترتيباً على ما تقدم وانطلاقاً منه، تورد السطور التالية، الحجج العلمية المنطقية والشواهد والدلائل العملية، التي تثبت عدم أحقية إسرائيل كـ”دولة لقيطة” في ممارسة التحدي الاستراتيجي لمصر باعتبارها “الدولة التاريخية” المركزية التي تتولى زمام القيادة في المنطقة.
ويعتمد كاتب هذه السطور لدعم طرحه بصفة رئيسية على المقولات الكبرى لنظرية “تحول القوة” في العلاقات الدولية.
غياب الندية الاستراتيجية.. “دولة لقيطة” تتحدى “الدولة التاريخية”؟!
ووفقاً للمنظور الكلي لمقومات القوة الشاملة ( السكان، والإنتاجية، والمقدرة السياسية)، فإن إسرائيل افتقدت- ولا تزال- عناصر الندية الاستراتيجية النسبية مع مصر.
إذ أن هذه المحددات تشكل – في الأغلب الأعم- طبيعة الحالة الراهنة والمستقبلية لموازين القوى الشاملة بين “الدولة القائد” في إقليم معين في مواجهة الدولة الأخرى “المتحدية” التي تسعى لتغيير الوضع الإقليمي القائم وفرض واقع مختلف وفقاً لمدركاتها ومصالحها الحيوية.
وبتطبيق هذه المعايير على حالة إسرائيل منذ عام 1948م وحتى عشية حرب أكتوبر عام 1973م، نجد أنها لم تكن متحققة من الناحية البراجماتية، ومع ذلك فقد نازعت إسرائيل مصر في مجال الاستئثار بمكانة “الدولة المركز” في واحد من أهم الأقاليم الحيوية وأكثرها سخونة في العالم؛ مدفوعة في ذلك بنشوة “النصر الخاطف والمؤقت” في حرب 67.
فقد حاولت تل أبيب استغلال هذه الحرب لتكريس وضعها الإقليمي الجديد، وتغيير النظام القائم آنذاك والذي لم تكن “راضية” عنه.
لكن تبعاً لنظرية “تحول القوة” فإن قوة إسرائيل الشاملة وقتئذ لم تكن تؤهلها لإحداث تأثير نوعي مختلف عبر الزمن.
فمن جهة أولى، افتقرت إسرائيل مقارنة بمصر، لحجم السكان الكبير والنوعي، ومما قلص قدرتها على امتلاك قوات عسكرية عاملة واحتياط ذات أعداد كبيرة.
ومن جهة ثانية، لم تكن اسرئيل ذات مقدرة انتاجية بالغة التفوق على مصر؛ بالنظر إلى أن نصف قوتها العاملة- على أقل تقدير- كانت تتحول إلى قوات عسكرية في الميدان لسد معضلة ضآلة عدد السكان.
ومن جهة ثالثة، افتقدت إسرائيل لمقومات المقدرة السياسية كأحد متغيرات “دالة القوة الشاملة”، نظرا لضعف التماسك السياسي الداخلي بها منذ إعلان قيامها – والمستمر حتى وقتنا الحاضر-، سواء على مستوى الحكومة ذات الطبيعة الائتلافية، أو على مستوى العلاقات المدنية –العسكرية.
أضف إلى ما سبق، غياب مؤشرات التأثير المعنوي أو القوة الناعمة لدى تل أبيب، فلم يكن لها حضور إقليمي مؤثر، ولم تمتلك علاقات تعاون إيجابية مع دول المنطقة، بل على العكس من ذلك تماماً غالبا ما عبر مؤسس إسرائيل- من أمثال: ديفيد بن جوريون وجولدا مائير وغيرهما- عن حقيقة الادراك الاسرائيلي بالإحاطة والتهديد في جوار صعب، معتبرين أن دولتهم تواجه محيط إقليمي معادي.
والأمر الواجب الذكر في هذا الصدد، هو أن عدم القبول أو الرفض الإقليمي لاسرائيل لم يكن قاصراً- كما كانت تدعي- على الدول العربية فقط، بل كان ممتداً في إفريقيا وآسيا وحتى في أوروبا التي تنفست الصعداء بعدما تخلصت من “المسألة اليهودية” التي طالما عانت منها، وغرستها في قلب العالم العربي.
وهكذا، افتقدت إسرائيل المرتكزات المادية والمعنوية كقوة إقليمية، ومن ثم اصبحت إدعاءاتها بالقيادة الاقليمية في مواجهة مصر لامحل لها، وفقاً لنظرية “تحول القوة”.
مصر تُشبع إسرائيل “قهراً”
على الصعيد العملي، مثلت حرب يونيو 67، أحدث الشواهد العملية على سعي إسرائيل لمنازعة مصر في تبؤأ مقعد القيادة في الشرق الأوسط.
وسبق هذه المحاولة التي منُيت بالفشل أيضاً، مساعي خبيثة للحد من قوة مصر الإقليمية، سواء من خلال إضعافها داخلياً وإجهاض جهودها التنموية (كما حدث في الحيلولة دون حصول القاهرة على تمويل البنك الدولي لمشروع السد العالي)، أو عبر استخدام العدوان العسكري المباشر ضدها ( كما حصل في قيادة إسرائيل للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م).
وقد وجدت هذه المحاولات الاسرائيلية إرهاصاتها في فكر ومقولات مؤسسي إسرائيل، الذين اعتنقوا قناعة راسخة عبر عنها بن جوريون في إحدى جلسات “الكابينت” بقوله:” إن تحويل إسرائيل من نبتة غريبة وسط محيط إقليمي معادٍ لا يتطلب منا أكثر من إزاحة او على الأقل إشغال ثلاث دول عربية، في مقدمتها: مصر”.
إلا أن مصر أجهت مخططات ومحاولات إسرائيل على مدار سنوات، قبل أن تقهرها استراتيجياً في السادس من أكتوبر، وتفجعها كمداً.
وقد استندت القاهرة في تصديها لمساعي تل أبيب “المتحدية” خاصة منذ حرب 67، إلى اعتبارات موضوعية، أبرزها: استناد تل أبيب للقوة الغاشمة المفتقدة للشرعية من أجل تحدي القيادة الاقليمية لمصر وتغيير معالم خارطة الشرق الأوسط بالمخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن عدم استحقاق إسرائيل من الأساس لمقومات هذه القيادة كما بينا آنفاً.
مراد القول أن: طرقت مصر الحديد وهو ساخن غداة حرب يونيو 67، وشرعت في الحيولة دون تكريس إسرائيل للواقع الجيواستراتيجي الجديد الذي أوجدته هذه الحرب؛ إذ صعبت القاهرة على تل أبيب الأمر خلال السنوات الست التالية، فأطلقت حرب الاستنزاف في وقت قياسي، وأعقبتها بعمل عسكري تاريخي أبقى على “توازن للقوى” حال دون “تحول للقوة” في إقليم طالما كان- وسيظل بإذن الله- عربي الهوية ومصري القيادة.