الشيخ محمد رفعت « قيثارة السماء » هو رمضان و إذاعة القرآن ، لم و لن يتكرر صوته العذب الرخيم الذي رقت له القلوب وخشعت لخشوعه وترتيله وتجويده لآيات الذكر الحكيم فصوته ملائكي و حفر مكانه في قلوبنا و ذاكرتنا .
وهذه أجمل و أهم عبارة ينتظرها ملايين الصائمين «استمعتم إلى تلاوة مباركة من آيات الذكر الحكيم ويُرفع الآن أذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت ».
محمد رفعت .. صوت رمضان وقرآن المغرب
فآذان مغرب رمضان مرتبط بصوته إلي الآن ، بالرغم مرور 71 عاماً على وفاته .
ولد الشيخ رفعت فى 9 مايو 1882 و توفي يوم 9 مايو 1950 ، فى حى المغربلين ، بالدرب الأحمر و كان شديد الجمال ، و أصيب بالرمد و عمره سنتان ، وهناك قصة لذلك فقد قابلته امرأة، وقالت عنه : إنه ابن ملوك، عيناه تقولان ذلك، وفى اليوم التالي استيقظ الأبن وهو يصرخ من شدة الألم فى عينيه مما أدى لفقده البصر نهائياً فى إحدى عينيه وضعف الأخرى ، ووهبه والده لخدمة القرآن الكريم، وألحقه بكتَّاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز ، فأتم حفظ القرآن وتجويده قبل العاشرة.
توفى والده محمود رفعت، الذى كان يعمل مأمور قسم شرطة الخليفة وهو فى التاسعة من عمره وتحمل مسئولية أسرته .
فلجأ إلي القرآن الكريم، يعتصم به، ولا يرتزق منه، وأصبح يرتل القرآن الكريم كل يوم خميس فى المسجد المواجه لمكتب فاضل باشا ، فكانت ساحة المسجد والطرقات تضيق بالمصلين؛ ليستمعوا إلى الصوت الملائكى، وأصبح مطلوباً فى كل مكان ، لجمال صوته وصغر سنه وقلة أجره وبدأ فى الوقت ذاته يتعلم فنون وأسرار تلاوة كتاب الله وكانت تحدث حالات من الوجد والإغماء من شدة التأثر بصوته الفريد، وظل يقرأ القرآن ويرتَّله فى هذا المسجد قرابة الثلاثين عاماً وفاءً منه للمسجد الذى بدأ فيه.
دراسته
لم يكتفِ الشيخ محمد رفعت بموهبته الصوتية الفذة ومشاعره المرهفة فى قراءة القرآن، بل عمّق هذا بدراسة علم القراءات وبعض التفاسير، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته، وكان عفيف النفس زاهداً فى الحياة، وكأنه جاء من رحم الغيب لخدمة القرآن، ففي عام 1934، ألغيت المحطات الأهلية، وأنشأت شركة “ماركونى” الإذاعة المصرية، واستفتى مفتي الأزهر ” محمد الأحمدى الظواهرى “، فأفتى له بأن القراءة فى الراديو ليست حراماً، ولكن ضميره لم يسترح حتى ذهب إلى ” مصطفى المراغى ” شيخ الأزهر ، الذى أكد له نفس الشئ، وأكد له أن الراديو سيكون وسيلة لسماع كل الدنيا لصوته الجميل ، وهنا اطمئن قلب الشيخ وكان أول من رتل القرأن الكريم فى الإذاعة حيث يقرأ مرتين فى الأسبوع مساء الثلاثاء والجمعة ، مدة 45 دقيقة فى كل مرة والدموع تنهمر من عينيه.
هيئة الاذاعة البريطانية عرضت عليه قراءة القرآن
وقد تنافست إذاعات العالم الكبرى مثل: إذاعة برلين ولندن وباريس أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لتستهل افتتاحها وبرامجها العربية بصوت الشيخ محمد رفعت؛ لتكسب الكثير من المستمعين إلا أنه لم يكن يعبأ بالمال والثراء وأَبى أن يتكسب بالقرآن.
ولما سمعت الإذاعة البريطانية ” بى بى سى العربية “، صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظناً منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغى الذى غير له وجهة نظره.
وبعد أن أصبح الشيخ رفعت المقرىء المفضل للمسلمين فى العالم أجمع جاء مهراجاً هندى ليعرض عليه إحياء ليالى شهر رمضان فى الهند مقابل 100 جنيه ورغم ضخامة المبلغ ، فى هذا الوقت وفقر الشيخ إلا أنه رفض لأنه لا يستطيع أن يترك مصر فى رمضان .
أظرف وأغرب المواقف في حياة الشيخ محمد رفعت ، أنه يعتبر هو القارئ الوحيد الذي قرأ في دار الأوبرا المصرية.
الشيخ والموسيقى
كان الشيخ رفعت ، يعشق الموسيقى و أصر على أن يدرسها ليهذب إحساسه وقد قام فعلاً بأداء بعض القصائد فى محطات الإذاعة الأهلية
وقد عرض عليه المطرب «محمد عبد الوهاب» أن يسجل له القرآن الكريم كاملاً مقابل أى أجر يطلبه، فاعتذر الشيخ خوفاً من أن يمس أسطوانة القرآن سكران أو جُنب.
عبدالوهاب أقرب الفنانين لقلب قيثارة السماء
كان محبو الشيخ رفعت من الفنانين كثيرين ومنهم زكريا أحمد وأم كلثوم وليلى مراد ولكن يبقى عبد الوهاب هو الأقرب لقلب الشيخ ، وكان الشيخ يستمع لبيتهوفن وموزارت وفاجنر باستمتاع ، وفى جلساته الخاصة كان يعزف على العود ببراعة.
الزغطة منعته من قراءة القرآن
أصيب بعدة أمراض لاحقته، وجعلته يلزم الفراش، وعندما يشفى يعاود القراءة؛ حتى أصيب بمرض الفواق (الزغطة)، الذى منعه من تلاوة القرآن، بل ومن الكلام أيضا، حيث تعرض فى السنوات الثمانى الأخيرة من عمره لورم فى الأحبال الصوتية منع الصوت الملائكى النقى من الخروج، ومنذ ذلك الوقت حرم الناس من صوته فيما عدا ثلاثة أشرطة كانت الإذاعة المصرية سجلتها قبل اشتداد المرض عليه، ثم توالت الأمراض عليه، فأصيب بضغط الدم والتهاب رئوى حاد، وكانت أزمة الفواق ( الزغطة ) تستمر معه ساعات، وقد حاول بعض أصدقائه ومحبيه والقادرين أن يجمعوا له بعض الأموال لتكاليف العلاج، فلم يقبل التبرعات التى جمعت له، وفضل بيع بيته الذى يسكن فيه فى حى «البغالة » بالسيدة زينب وقطعة أرض أخرى؛ لينفق على مرضه و وسط الشيخ «أبو العينين شعيشع» لدى الدسوقى أباظة وزير الأوقاف آنذاك، فقرر له معاشاً شهرياً، وشاء الله أن تكون عاش ثمانية وستين عاماً قضاها فى رحاب القرآن الكريم.
لما مرِض الشيخ رفعت، رفض قبول الاكتتاب الذى وصل إلى آلاف الجنيهات، فزاد إكبار الناس وإجلالهم له، وظل الشيخ طريح الفراش 9 سنوات مردداً « أراد الله أن يمنعنى ولا راد لقضائه.. الحمد لله ».
أغلب أعمال الشيخ رفعت حفظتها أسطوانات زكريا باشا مهران،وصديق تاجر اسمه محمد خميس، والأخير كانت إمكانياته محدودة، لكن زكريا باشا مهران كان غنياً، وكان لديه جهازان كبيران كان يسجل بهما كل ما يسمعه من الشيخ رفعت، وبعد وفاته ذهب إلى الإذاعة، وقال إنه على استعداد لأن يهديهم التسجيلات التى لديه شريطة أن يخصصوا معاشاً شهرياً للشيخ رفعت؛ لأنه رجل رفض الاكتتاب الذى اقترحوه له.
الباشا مهران كان يسجل على أسطوانة مدتها دقيقة ونصف الدقيقة، ويستبدلها، وأصوات البيت والناس تظهر فى الأسطوانة، ولما انتبه بدأ يسجل على اسطوانتين فى الوقت نفسه حتى لا يكون هناك فاصل، أيامها كانت الأسطوانات مازالت اختراعاً جديداً وصوت الراديو ليس واضحا تماما، وكان رحمه الله يسجل من الإذاعة مباشرة.
من مآثر زكريا باشا مهران أنه لم يطلب أبداً مقابلاً لبيع الأسطوانات، وعندما رحل الشيخ عن الدنيا، أعطى الباشا الأسطوانات بلا مقابل للإذاعة، وتبقى جزء منها .
أبكى الملك فاروق
و ذكرت حفيدة “رفعت” أن جدها أبكى الملك فاروق حزنا وإعجابا ، فقد طلب الملك فاروق من الشيخ محمد رفعت ، أن يقوم بإحياء ذكرى رحيل والده الملك فؤاد وذلك في احتفالية خاصة بقصر عابدين ، يحضرها رموز السياسة من الساسة في مصر وخارجها .
فتوجه الشيخ للملك فاروق ، واعتذر له متعللا بأنه لا يحب التقرب من أهل السياسة ولا الحديث فيها ، مشيرا إلى أنه يرحب بأن يقوم بإحياء ذكرى الملك فؤاد ولكن على مستوى أسرته ، فحزن الملك فاروق لدرجة البكاء ، لعلمه بتعلق والده المرحوم بصوت الشيخ رفعت ، لكنه بكى إعجابا به ، عندما علم أنه في نفس اليوم الذي رفض فيه الشيخ رفعت التلاوة أمام أهل السياسة ، كان يقوم بإحياء ليلة حفل طهور ابن جارة للشيخ محمد رفعت في المغربلين ، ولا يمتلك ذلك الرجل أجر الشيخ ، فرحب الشيخ على الفور.
و تضيف حفيدته أن جدها تعرض لوعكة صحية حجبت صوته فى 1937، فتوقف عن قراءة القرآن،ورفض تلقى أى مساعدات مالية أو صحية، راضيا بقضاء الله وقدرة.
فارق الشيخ محمد رفعت الحياة في 9 مايو 1950 .
موضوعات متعلقة: