الزمان هو الخامس والعشرين من يناير عام 1952، والمكان محافظة الإسماعيلية وتحديدًا مبنى المحافظة، المشهد يبدو هكذا.. جيش وصل عدده إلى سبعة آلاف جندي مزودين بالأسلحة الثقيلة وتدعمهم الدبابات، وفي المقابل عدد قليل من الجنود بداخل المبنى، ليس بحوزتهم سوى كمية صغيرة من الذخيرة التي يتصدون بها لهذه الأعداد الكبيرة.
بدأت الاشتباكات في حرب غير متكافئة من ناحية الأعداد والعُدة، أصوات الرصاص تعج في أرجاء المكان، مدنيون يهرولون خوفًا من أن تصيبهم طلقات الظلم التي جلبتها قوات الاحتلال البريطاني بين طياها، وهناك على الجانب الآخر جنود مسلحة يضربون مثلًا في العزيمة والقوة والصمود، وينقشون أسمائهم بحروف من الذهب في التاريخ، إذ يواصلون تبادل النيران لمدة ساعتين متواصلتين لصد الهجوم عليهم حتى انتهت الذخيرة تماما.
العمليات الفدائية التي ينفذها المواطنين المصريين ضد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة القنال، حققت نتائج هائلة في تدمير أعداد كبيرة بمعسكراتهم، وانسحاب العمال المصريين من العمل في المعسكرات الانجليزية، وضع القوات البريطانية في موقف حرج ووصلت الأمور إلى قمة التوتر، الأمر الذي دفعهم إلى تنفيذ هذه الملحمة التي ستظل عالقة في أذهان الجميع على مر العصور.
عقب ترك العمال العمل في المعسكرات البريطانية أعلنت الحكومة المصرية تسجيل أسماء هؤلاء العمال الراغبين في ترك عملهم للمساهمة في الكفاح الوطني، الأمر الذي أثار غضب البريطانيين، إذ أقدم قائدهم “أكسهام” على مغامرة جديدة، يطالب فيها القوات المصرية بتسليم أسلحتهم للقوات البريطانية وأن يرحلوا عن المنطقة، الأمر الذي رفضه وزير الداخلية آنذاك “فؤاد سراج الدين” وطلب منهم الصمود في وجه الاحتلال.
قذيفة تم إطلاقها من دبابة كنوع من التخويف من جانب قوات الاحتلال البريطاني، أدت إلى تدمير غرفة “السويتش” بمبنى المحافظة والذي أسفر عن استشهاد عامل الهاتف الأمر الذي بدأت على إثرها المعركة بقوة والتى شهدت فى بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين.
“اليوزباشى مصطفى رفعت” اسمًا لازال التاريخ يذكره، وهو قائد قوة بلوكات النظام المتواجدة داخل مبنى المحافظة، والذي خرج فى مشهد يعكس مدى جسارة وشجاعة رجل الشرطة المصرى فتوقفت الاشتباكات ظنا من قوات الاحتلال بأن رجال الشرطة سيستسلمون ولكنهم فوجئوا بأنه يطلب الإتيان بسيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة وفقا لتقاليد الحرب الشريفة التى اعتاد عليها المصريون.
عقب الإصابات التي وقعت رفض الاحتلال إسعافهم واشترط خروج الجميع أولا والاستسلام وهو ما رفضه “رفعت” وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة والتى لم يغب عنها أيضا أهالى الإسماعيلية الشرفاء حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح لقوات الشرطة رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.
تلك الكاميرا التي ترصد هذه المشاهد الصعبة التي يعيشها رجال الشرطة المصرية، وثقة مشهدًا يعكس روح الأخوة التي يعيشها المصريين منذ مئات السنين، إذ نفذت الذخيرة، ولكنهم قرروا عدم الاستسلام فقرأوا جميعا فاتحة كتاب الله والشهادتين بما فيهم الضابط القبطي اليوزباشى عبدالمسيح فى لحظة تؤكد مدى تماسك ووحدة الشعب المصري وقرروا القتال حتى آخر طلقة.
في هذه الآونة كانت مدينة الإسماعيلية تعيش أعظم ملحمة في التاريخ، إذ أنها كانت ترقص على أنغام البارود، من البركان الثائر من رجال البوليس والفدائيين الذين تعاهدوا على تحرير أرض الوطن من جيش يمتلك أحدث الأسلحة وقواته مدربة بأرقى مستوى تدريب فى القتال والمناورات التكتيكية، مما جعل المعركة بينهم محسومة قبل أن تبدأ ولكن رجال البوليس أثبتوا العزيمة والشجاعة والكفاح بأيمانهم القوى بالله ووطنهم بأسلحة نظامية.
الذخيرة التي بحوزتهم نفذت، الأمر الذي أتيح لقوات الاحتلال أقتحام وتدمير أسوار قسم البستان وضربت الجنود المصريين بوابل من الرصاص والقنابل على مبنى قسم البستان وثكنات بلوكات الأمن، وتلطخت دماء الشهداء والجرحى.
منذ ذلك الحين صار الخامس والعشرين من يناير، عيدًا قوميا لمحافظة الإسماعيلية، وعيدًا مجيدًا للشرطة المصرية، وذلك تكريما لضحايا المعركة التي أسفرت عن استشهاد نحو 50 من رجال الشرطة وإصابة 80 آخرين.