“حرب الـ 1000 يوم”.. كيف جعلت مصر إسرائيل تندم على احتلال سيناء؟
توهمت إسرائيل أن الحرب الخاطفة التي شنتها في 5 يونيو 1967م وما نجم عنها من احتلالها لأراضٍ عربية جديدة إضافة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد حققت لها مرادها بحل معضلة غياب العمق الاسنراتيجي.
غير أن هذا الوهم الإسرائيلي سرعان ما تبدد بعد فترة وجيزة من تلك الحرب، إذ أدركت إسرائيل- جبراً وليس طوعاً- أن توسع عدوانها واحتلالها لمزيد من الأراضي العربية بات -على عكس ما تصورت وهدفت- عبئاً وليس ملاذاً استراتيجياً؛ وذلك بعدما حولت مصر الاحتلال الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء إلى كابوس مزعج وبؤرة خسائر عسكرية وبشرية لتل أبيب، من خلال “حرب الـ1000 يوم” كما يُطلق عليها جانب من المؤرخين الإسرائيليين.. فكيف تمكنت القاهرة من “تحويل القوة” التي كانت ضدها إلى صالحها ممهدة الطريق لنصر أكتوبر المجيد في 73؟
إسرائيل من “الحدود الآمنة” إلى “الوحل الاستراتيجي”
واجهت إسرائيل معضلتين استراتيجيتن رئيسيتين منذ إعلان قيامها في فلسطين المحتلة في 14 مايو 1948م، هما: “ضيق الجغرافيا” ممثلاً في غياب العمق الاستراتيجي، و”ضآلة الديموجرافيا” ممثلة في قلة عدد سكانها من المستوطنين مقارنة بالفلسطنيين الذين هم السكان الأصليين وأصحاب الأرض.
وقد ترتب على حرب 5 يونيو 1967م أن أصبحت اسرائيل تسيطر على مساحة جغرافية تعادل 3 أضعاف المساحة التي قامت عليها، وذك بعد احتلالها لكل من: شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة، وهضبة الجولان، ونهر الأردن، وهي مساحة بلغت حوالي 70 ألف كيلومترمربع، مما وفر لإسرائيل- لأول مرة منذ عام 1948م- عمقاً استراتيجياً طبيعياً، وإن ظلت معزولة وسط المحيط الإقليمي. وفي ضوء هذا المعطي الاستراتيجي الجديد، طرأت بعض التعديلات على العقيدة العسكرية والاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية لتناسب هذا التطور الجيواستراتيجي الجديد.
فعلى صعيد العقيدة العسكرية، تبنت اسرائيل للمرة الأولى نظرية “الحدود الآمنة”، القائمة على التمسك بالمناطق الحيوية الحاكمة التي سيطرت عليها في حرب 67، والتي وفرت لها حدوداً يمكن الدفاع عنها دون اللجوء إلى حرب وقائية، وفي المقابل تم تجميد مبدأ الحرب الخاطفة، مع الاعتماد على الدفاع الثابت للحدود.
وعلى صعيد الاستراتيجية الأمنية، أدخلت إسرائيل عدة تغيرات انسجاماً مع التطورات التي شهدتها عقيدتها العسكرية خلال هذه الفترة، ومن أهم هذه التغييرات: اعتبار سلاح المدرعات بمثابة عامل الحسم العملياتي، وتشكيل قيادات دائمة للفرق العسكرية المدرعة والميكانيكية لضمان السيطرة على مسرح العمليات الواسعة في الجبهات المختلفة، وزيادة الاهتمام بالقوات البحرية، بالنظر إلى اتساع مساحة الأراضي العربية التي احتلتها اسرائيل بعد حرب 67 وامتداد سواحلها بشكل كبير، وتمثل التطوير الاساسي في هذا الصدد في تزويد القوات البحرية – للمرة الأولى- بالزوارق الصاروخية.
حرب الاستنزاف وكسر الغطرسة العسكرية الإسرائيلية
لم تهنأ إسرائيل طويلاً- كما كانت تحلم وتُمني نفسها- بما ظفرت به في الخامس من شهر يونيو 67، إذ ما لبتث مصر أن أطلقت حرب الاستنزاف في مطلع شهر يوليو 67 من خلال معركة “رأس العش” الشهيرة، التي فاجأت إسرائيل وفجعتها في أن واحد معاً.
ونجحت مصر من خلال الفلسفة الاستراتيجية العامة لحرب الاستنزاف في إحداث “تحول جوهري في اتجاه القوة”، على نحو لم تتوقعه إسرائيل مطلقاً؛ بسبب إغراقها في نشوة “حرب الأيام الستة” والزهو المفرط بها.
وارتكز “تحول القوة” هذا إلى هدفين رئيسيين حققتهما القاهرة بشكل مزدوج من خلال معارك الاستنزاف، وذلك على النحو التالي:
– الهدف الأول: حرمان إسرائيل من ميزة العمق الاستراتيجي الطبيعي التي حصلت عليها “مؤقتاً” بعد 5 يونيو 67، وإجبارها على التخلي عن مبدأ “الحدود الآمنة” في عقيدتها العسكرية والعودة إلى مبدأها السابق على ذلك التاريخ، وهو “الدفاع الإقليمي”.
فقد مُني الجيش الإسرائيلي بحجم كبير من الخسائر البشرية والعسكرية في الجنود والمعدات والآليات في فترات زمنية متقاربة ، نتيجة تنشيط القوات المسلحة المصرية للجبهة والاشتباك المباشر وغير المباشر مع العدو، مما أدى إلى تقييد حركة القوات الإسرائيلية في الخطوط الأمامية على الضفة الشرقية لقناة السويس، وجعل من شبه جزيرة سيناء عبئاً استراتيجياً على اسرائيل، التي أصبح من المتعين عليها دفع فاتورة فورية لتجرأها على احتلال أرض مصرية، وكي تعلم علم اليقين أن البقاء في سيناء سيعني لها دفع ثمن باهظ لن تقوى عليه لأنه يتجاوز عقبة قدرة تحملها العسكرية والسياسية.
وهكذا، لم تعد سيناء- خلافاً للتصور الإسرائيلي بعد حرب 67- منطقة دفاع أمامية أمنة، بل تحولت إلى مصدر للتهديد المستمر والاستنزاف الدائم.. وهكذا تم إفقاد إسرائيل ميزة العمق الاستراتيجي الطبيعي المؤقت، واضطرت إلى الارتداد إلى مبادئ عقيدتها العسكرية السابقة.
– الهدف الثاني: التجهيز المعنوي والعملياتي للقوات المسلحة المصرية تمهيداً لمعركة استرداد الأرض، وفي الوقت ذاته كسر الغطرسة العسكرية الإسرائيلية وضرب معنوبات قواتها، وهو ما تحقق بالفعل من خلال العمليات والاشتباكات التي تم تنفيذها على مدار حرب الاستنزاف، والتي أدت في محصلتها النهائية إلى تآكل قوة الردع للجيش الإسرائيلي.
ويكفي أن نشير في هذا المقام إلى عملية تدمير المدمرة “إيلات” التي كانت عملية دالة لجهة التفوق المصري في توجيه ضربات في الصميم إلى القطع البحرية الحربية الإسرائيلية، وكذلك القدرة المصرية العالية في إظهار عجز سلاح الجو الإسرائيلي، الذي كانت تعتبره تل أبيب بمثابة “يدها الطولى” في الحرب، حيث كسرت القوات المسلحة المصرية البطلة هذه اليد، من خلال إسقاط العديد من مقاتلات “فانتوم” الإسرائيلي المتطورة أميركية الصنع خلال أسبوع واحد فيما بات يُعرف في الأدبيات العسكرية والاستراتيجية بـ”أسبوع إسقاط الفانتوم”.
ولا جدال في أن “تحول القوة” هذا جاء نتاجاً للعقل المصري المرتكز إلى التخطيط السليم القائم على معلومات دقيقة ومؤكدة قادتها منظومة استخبارات وطنية منضبطة وذات مصداقية فائقة، بما ساهم في رسم صورة شاملة وكاملة ومفصلة عن إسرائيل أمام صانع القرار في التوقيت المناسب.
ومقصود القول أن: “تحول القوة” الذي أحدثته مصر في حرب الاستنزاف- كنموذج تمهيدي لنصر أكتوبر المجيد – استند إلى “معرفة للقوة” مؤمنة بـ”قوة المعرفة”.