الأثر النفسي لـ” 67 ” وتغيير اتجاه القوة وقيمتها تمهيداً لـ”73″
أظهرت مصر وإسرائيل ردود أفعال متباينة تماماً على الصعيد النفسي الرسمي والمجتمعي تجاه حرب الخامس من يونيو عام 1967م، على نحو كانت له تداعياته الجوهرية على ماهية السلوك السياسي، ووتيرة التجهيز العسكري، وجدية الاستنفار الوطني لكل من الجانبين، على مدار السنوات الست التالية حتى نصر السادس من أكتوبر عام 1973م.
فقد ساد الزهو الزائف الأوساط السياسية والعسكرية والشعبية الإسرائيلية نتيجة “النصر السريع” المتحقق في غضون أيام من قيظ صيف 67، ما انعكس لجهة شيوع حالة من الاسترخاء اللاواعي في الجبهة الداخلية بتل أبيب، وذلك كما عبر عنه مضمون الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي الإسرائيلي وقتئذ، وهو الخطاب الذي روج لمقولة ” أسطورة الجيش الذي لا يُقهر”، والتي شكلت بدورها وضعية لاشعورية من
” الخداع النفسي الذاتي” الذي سيطر على العقل الجمعي الإسرائيلي، لم يستفق منه إلا في تمام الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 73 بتوقيت القاهرة. وذلك وفقاً لشهادات إسرائيلية موثقة، ومن الأمثلة المعاصرة لهذه الشهادات ما تضمنه كتاب:”حرب الأيام الستة: تدمير الشرق الأوسط” للمحاضر في الجامعة العبرية جي لارون والصادر عام 2014م، وكتاب :”1967م” للمؤرخ الإسرائيلي توم سيجيف الصادر عام 2007م.
أما على الجبهة المصرية فقد كانت على طرفي نقيض من الناحية النفسية، إذ تلقى المصريون هزيمة 67- إذ أن الواقعية والموضوعية تجعلنا لا نوارب بإطلاق مسميات أخرى على ما حدث أنذاك من قبيل: النكسة أو غيرها- على نحو مختلف ومخالف للمألوف في الخبرة التاريخية لمثل هذه الحالات التي تعقب الهزائم العسكرية.
فعلى الرغم من مرارة الهزيمة، وشدة وقعها على مصر، قيادة وشعباً، وبرغم كل ما صاحبها وتلاها من حزن عام، وإحباط غير مسبوق، إلا أن ذلك كله لم يتحول إلى انكسار أو انهزام نفسي في العقل الجمعي المصري، الرسمي والشعبي على السواء.
البصيرة الاستراتيجية المصرية وجبهتي القاهرة وتل أبيب
امتلكت مصر ما بعد 67، البصيرة الاستراتيجية التي مكنتها من حسن استثمار الأثار النفسية المتناقضة على الجبهة الداخلية في القاهرة ونظيرتها على الجانب الإسرائيلي؛ بحيث تم إحداث “تحويل للطاقة” المتولدة مجتمعياً في كلا الجانبين، وذلك إما بتغيير اتجاه القوة، أو قيمتها وثقلها بحسب مصطلحات علم الفيزياء.
وقد ساهم هذا الأمر في ارتداد عكسي غير متوقع أو مسبوق، على مختلف المستويات الاستراتيجية والعملياتية، المدنية والعسكرية المصرية، على مدار السنوات الست الفاصلة وصولاً إلى نصر أكتوبر 73.
فمن جهة أولى، استثمرت القاهرة حالة الزهو الإسرائيلي التي خلفتها حرب 67 وما صاحبها من استرخاء سياسي-مجتمعي، في تحقيق أهداف “خطة الخداع الاستراتيجي” المصرية الممهدة لنصر 73، والتي صاغها بكل براعة ونفذها بمنتهى الاقتدار أبناء مصر الأبرار في مختلف الأجهزة والمؤسسات وعلى المستويات كافة، بدءاً من صناع ومتخذي القرار السياسي والعسكري وصولاً إلى قطاعات الشعب كل في موقعه وحسب امكانياته.
فمن المعلوم أن أحد أهم أسباب نجاح هذه الخطة، ارتكز إلى استغلال حالة الغرور الإسرائيلي عقب 67، حيث أتقن صانع القرار المصري استثمار البيئة النفسية للقادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، لجهة التمويه على خط الإعداد لحرب أكتوبر، بدءا من إعادة تأهيل البنية التحتية الاستراتيجية، وتسليح القوات المسلحة المصرية، ومروراً بإعداد كافة مناطق الدولة للحرب، ووصولاً إلى توفير مخزون استراتيجي من السلع الأساسية تكفي 6 اشهر قبل الحرب مباشرة.
وهكذا، نجح صانع القرار المصري في تحويل اتجاه القوة لصالح الوطن، حين حول “الأنا” الإسرائيلية المتضخمة كنتاج لتداعيات حرب 67، إلى ارتداد معاكس سلبي على الوعي الإسرائيلي تجاه الجاهزية المصرية لخوض الحرب المقبلة.
ومن جهة ثانية، وهذا هو الأهم، تم تحويل الحزن والإحباط على الجبهة المصرية بعد 67، إلى طاقة تحفيزية لامتصاص الهزيمة، والعمل على كسب المعركة التالية بدلاً من الارتكان إلى اليأس الذي كان يُنذر بالانحدار إلى هاوية الانكسار.
والنقطة الجوهرية في هذا المقام، تتمثل في إدراك صانع القرار أنذاك ممثلاً في الرئيس جمال عبدالناصر، ثم الرئيس أنور السادات- رحمهما الله- لواحدة من أهم السمات القومية المركزية الحاكمة للشخصية المصرية- إن لم تكن الأهم على الإطلاق في تقدير كاتب هذه السطور- ألا وهي “البعد المعنوي-النفسي”.
إذ تشير الخبرة التاريخية، أن الشخصية المصرية تُعلي وتُعظم بدرجة مرتفعة- ومرتفعة جداً- من قيمة “تقدير النفس” والتشجيع وبث الهمة والعزيمة والأمل بالقدرة على الإنجاز رغم الصعاب والتحديات و”أنت تقدر لأنك مصري”.
فقد نجح صانع القرار في السنوات الست ما بين 67 و73 ، في استثمار المعطيات النفسية للشخصية الوطنية المصرية، وفق مراحل ثلاث رئيسية متدرجة ومتعاقبة- من وجهة نظر صاحب هذا الطرح-، وهي: مرحلة ضمان الصمود وعدم تحول إحباط هزيمة حرب يونيو 67 إلى انكسار وطني، تبعها مرحلة بث الأمل في إمكانية التعافي وإزالة آثار الهزيمة وذلك على نحو ما تجلى في حرب الاستنزاف التي بدأت بعد اسابيع قليلة من 5 يونيو 67، ثم جاءت مرحلة التمهيد النفسي لخوض الحرب الفاصلة والتي بموجبها تم تحويل قيمة القوة النفسية إلى خطط وبرامج عمل أثمرت نصراً مؤزاراً في حرب أكتوبر 73.
“الكنز الخفي”
في ضوء ما تقدم، فإن مربط الفرس في هذا المقام هو: تمتلك الشخصية الوطنية المصرية “كنزاً خفياً” تُطلق عليه لهجتنا العامية المُعبرة والعابرة لجميع الاختلافات، مصطلح “النفسية” وهي اختصار للحالة المعنوية/النفسية.. فهذه “النفسية” صنعت الفارق في أكتوبر 73، بل كانت فاصلة في “تحول القوة” اتجاهاً وقيمة في معركة الصمود ثم النصر، على النحو سالف الذكر.
وفي تقدير كاتب هذه السطور، أن ثمة تشابه بين نهر النيل و”الحالة المعنوية” للمصريين، فكما أن ارتفاع منسوب مياه النيل يُبشر بموسم خير ونماء فيما انخفاض هذا المنسوب يُنذر بجفاف وعناء، فكذلك الحال في الحالة المعنوية للمصريين؛ كلما ارتفعت معنوياتهم زادت ثقتهم بأنفسهم فتحدوا الصعاب وتجاوزوا المحن وحققوا “المعجزات” بغض النظر عن حجم الإمكانيات المادية المتاحة، والعكس صحيح.
ويكفي للدلالة على صحة هذا الأمر ما نراه في ساحات البطولات الرياضية الفردية والجماعية على السواء، حين نرصد تحقيق أبناء وبنات النيل لبطولات أوليمبية وقارية بأرقام قياسية في ظل ظروف ضاغطة وامكانات محدودة، لكن “كلمة السر” وراء هذا النجاح تبقى الروح المعنوية العالية التي تُولد الهمة والعزيمة النافذة.
صفوة القول، أن واحدة من “الإضاءات الأكتوبرية” في مجال قدرة مصر الفذة في “تحول القوة” اتجاهاً وقيمة وثقلاً، هي الحالة النفسية الصامدة والواثقة للدولة والمجتمع، والتي تسطر أحد أهم دروس النصر المجيد للحاضر والمستقبل بأن توافر هذه الحالة هو شرط لازم وكافٍ – في الأغلب الأعم- لتحويل الطاقة المُبدعة الكامنة إلى جهد إنساني مبذول يُمكن مصر صاحبة “عبقرية المكان” من تبؤأ “مكانة علية” في كل زمان.