تحتفل مصر بالذكرى الثامنة والأربعين لنصر أكتوبر المجيد، الذي سيظل حدثاً مفصلياً في تاريخ منطقة الشرق الأوسط باعتراف المسئولين السياسيين وكبار الإستراتيجيين-الحاليين والسابقين-في إسرائيل.
ولا شك أن تاريخ السادس من أكتوبر من كل عام يشكل مناسبة عزيزة على قلوب جميع المصريين بمختلف فئاتهم العمرية؛ كونه يوم فخر وعزة للعسكرية المصرية بل والعسكرية العربية قاطبة.
غير أن التأمل المستبصر لمعطيات الحاضر والرؤية الاستشرافية لاحتمالات المستقبل تستدعي منا عدم اختزال ذكرى نصر أكتوبر المجيد في الجانب الاحتفالي وحسب، بل يجدر بنا أن نجعل من هذه المناسبة العظيمة منصة انطلاق نحو المزيد من تعزيز أمننا القومي، بما يتضمنه ذلك من ضرورة طرح رؤى مبتكرة (خارج الصندوق) أمام صانع ومتخذ القرار، على نحو يعينه على خدمة المصلحة العليا لمصر.
تأسيساً على ذلك، نطرح ونناقش بإيجاز في هذا المقال قضية ذات صلة بالأمن القومي المصري، نحسب أنها على درجة معقولة من الأهمية، ألا وهي الحاجة لأن يكون لدى مصر وثيقة رسمية منشورة خاصة بالأمن القومي.
وفي حدود علمنا المتواضع، لم نلحظ نقاشاً علنياً موسعاً لهذه الفكرة من قبل من جانب الباحثين والمهتمين بشؤون الأمن القومي المصري إلا قليلا وفي أضيق الحدود وربما أيضاً على استحياء.
ويأتي طرحنا لهذه القضية الحيوية على بساط النقاش الجاد، انطلاقاً من يقيننا بأن القيادة السياسية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، لديها من الحس الوطني والتطلع نحو المستقبل ما يجعلها منفتحة على الاستماع إلى كل ما من شأنه خدمة المصلحة العليا لمصر، حاضراً ومستقبلاً، وبالتالي فإن النقاش حول هذه الفكرة
-التي قد تبدو مثالية بالنسبة للكثيرين-إن لم يفيد مصر حالياً ربما يخدم توجهاتها المستقبلية بصورة أو بأخرى.
مصر الكبرى تستحق
إن إصدار وثيقة رسمية عن استراتيجية الأمن القومي يتجاوز مجرد الوجاهة الوطنية أو (البريستيج الاستراتيجي) -وإن كانت مصر جديرة بذلك ومستحقة له-إلى عدد من الاعتبارات الموضوعية التي يتمثل أهمها في التالي:
1. حجم الدور ومدى التأثير الذي تمارسه القاهرة في مختلف القضايا والملفات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بدءا من القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي، مروراً بأمن الخليج وغرب آسيا، وصولاً إلى القارة الأفريقية والجناح الغربي للأمن القومي العربي؛ هذا الدور وذلك التأثير يجعلان من الأهمية بمكان وجود وثيقة مرجعية للأمن القومي لمصر باعتبارها قوة كبرى ووازنة في معادلات الإقليم وحساباته، فضلاً عن تأثيراتها الأخرى على المستوى الدولي.
2. سوف تشكل الوثيقة الإستراتيجية موجهات لحركة الامن القومي، بما تتضمنه من خطوط عامة حول أولويات الدولة المصرية، والمحاذير -أو إن شئت الخطوط الحمراء- التي تضعها القاهرة بشأن أمنها استقرارها وسيادتها، ومنش أن ذلك ان يحمل بشكل واضح لا لبس فيه رسائل طمأنة للدول الشقيقة والصديقة من جهة، وإنذاراً للخصوم أو المنافسين وكذلك للجهات المعادية لمصر، مما يوفر على مؤسسات صنع القرار ومتخذ القرار المصري، عبء الحديث- واحياناً تكرار هذا الحديث- إن تصريحاً او تلميحاً في هذه الأمور بالغة الحساسية والخطورة في آن واحد معاً.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تتضمن وثيقة استراتيجية الأمن القومي صياغة بعض الأمور التي وردت في الخطاب السياسي للرئيس عبد الفتاح السيسي في مناسبات متعددة عن أولويات الأمن القومي وقضاياه وأبعاده، بحيث تؤسس لمبادئ راسخة للأمن المصري.
إذ يمكن صياغة حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي عن “مسافة السكة” لنطلق عليه:(مبدأ السيسي لأمن الخليج)، أو حديثه عن وجود خط أحمر لأمن مصر في ليبيا، لنسميه (مبدأ السيسي لأمن حدود مصر الغربية)، وكذلك الحال بالنسبة لحديث الرئيس عن أن (أمن مصر يتجاوز حدودها السياسية) أي أنه يرتبط بكل ما يتصل بمصلحة مصرية حيوية سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أمنية أو ثقافية، بغض النظر عن أي مكان، وبذلك تكون وثيقة قد نوهت بشكل جلي مجال او نطاق الأمن القومي لمصر ليكون بمعنى الامن الحيوي الذي يتجاوز الأمن الجغرافي أو أمن الحدود.
3. ستساهم الوثيقة، في تحديد القضايا المستجدة للأمن القومي المصري، من قبيل: الامن المائي كما هو الحال في قضية سد النهضة الإثيوبي، وأمن الطاقة الذي يشمل الموارد الطبيعية خاصة النفط والغاز والت تشهد تنافساً محموماً ربما ينذر بصراعات وحروب في مناطق مثل شرق البحر المتوسط.
ايضاً، سوف تشدد وثيقة الأمن القومي على قضية (أمن البشر) ممثلة في أمن وسلامة المصريين العاملين في الخارج، لاسيما مع ما تشهده السنوات الأخيرة من مضايقات وممارسات سلبية تجاه هؤلاء المواطنين استدعت تحركاً فورياً من قبل الوزارات والجهات المعنية في الدولة.
مراد القول، أن إصدار وثيقة رسمية دورية لأمن مصر القومي، بات أمراً جديراُ بالنقاش والاهتمام؛ بالنظر إلى تعاظم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة المصرية خلال العقد الأخير، وتعدد وتنوع التهديدات الاستراتيجية بما يتضمنه ذلك من تغير ماهية التهديدات التقليدية تزامناً مع بروز مهددات غير تقليدية للأمن القومي، ناهيك عن التنافس الشرس الذي تواجهها مصر من جانب القوى الإقليمية غير العربية الساعية إلى تبوأ مقعد القيادة في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من هذه التحديات والتهديدات كافة، يبقى فكر القاهرة متقداً وأملها معقوداً وعزيمتها راسخة لاتكل ولا تلين، استلهاماً من “روح نصر أكتوبر” المجيد، وارتكازاً إلى رؤيته الثاقبة، واستكمالاً لمسيرته الزاخرة.. “نصر أكتوبر” الذي يظل الذخر الباقي والذخيرة التي لن تنضب.