تمساح النيل وكوبرا تل أبيب.. لمن الغلبة في صراع الإرادات على ضفاف القناة عام 73؟
لم تكن حرب أكتوبر المجيدة لتؤتي نتائجها العملياتية والاستراتيجية التي أفرزت “تحولات قوة” الكبرى، لولا توافر منظومة استخباراتية وطنية فعالة ومرنة ودقيقة، شكلت القاعدة الصُلبة والأساس المتين لعملية صنع واتخاذ القرار المصري على المستويين السياسي والعسكري توازياً.
فقد شكل الجهد الاستخباراتي المصري آلية مزدوجة في ميدان “تحول القوة” الشامل في مواجهة إسرائيل، لاسيما خلال السنوات الست الفاصلة بين حربي 67 و73، وهذا الأمر ليس من عنديات كاتب هذه السطور أو انحيازاً منه- كما يحلو للبعض أن يدعي- وإن كان لي الفخر كل الفخر أن أكون منحازاً لوطني ومؤسساته كافة.
غير أن الشهادة في هذا الشأن جاءت على لسان قادة اسرائيل أنفسهم، سواء السابقين منهم أو المعاصرين، الذين أكدوا في مناسبات عدة أن العامل الحاسم فيما حققته القاهرة في نصر أكتوبر لاسيما في المراحل الافتتاحية للحرب، كان بسبب التفوق الاستخباراتي المصري على نظيره الإسرائيلي، خلافاً لما كان حاصلاً في حرب 67.
“تحول مزدوج للقوة”.. المنع والحشد
انشغلت منظومة الاستخبارات المصرية غداة الخامس من يونيو 67 وحتى ظهر يوم السادس من أكتوبر 73 بتحقيق هدفين رئيسيين مترابطين، هما:
– الهدف الأول: تحصين الجبهة الداخلية على جميع المستويات من الاختراق الإسرائيلي، للحيلولة دون اكتساب تل أبيب مزيداً من أوراق القوة المعلوماتية، أي أن التركيز هنا كان على منع “تحول سلبي للقوة” لصالح إسرائيل.
– الهدف الثاني: توفير وتأمين أكبر قدر ممكن من المعلومات الصحيحة والدقيقة والحديثة عن كافة عوامل القوة الإسرائيلية جغرافياً وديموجرافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، وتحليل هذه الحصيلة المعلوماتية وتصنيفها والربط بين معطياتها، ومن ثم وضعها في التوقيت المناسب أمام صانع القرار، بما يمكنه من الاختيار الأمثل بين البدائل السياسية والعسكرية المتاحة من الناحية البراجماتية.
وهذا الهدف الثاني يعني حشد الجهود والطاقات في حدها الأعظم من أجل إحداث “تحول إيجابي للقوة” يعزز فرص النصر على العدو.
وتبعاً لهذين الهدفين أو لنقل هذا الهدف المزدوج، جاء عمل منظومة أجهزة الاستخبارات والأمن القومي المصري ببعديه الخارجي والداخلي، خلال حرب الاستنزاف والتخطيط لحرب أكتوبر، حيث شرعت في تزويد صانع القرار بالمعلومات والبيانات، واقتراح البدائل المختلفة بمنتهى الشفافية والموضوعية، وهي الأجهزة المشهود لها بالكفاءة والوطنية، والغنية عن التلميح إلي دورها، ناهيك عن التصريح بأسمائها.
“تمساح النيل”.. سر نجاح العبور
من الناحية التنفيذية، انتهجت منظومة الاستخبارات والأمن القومي، استراتيجية متناغمة لتحقيق “تحول القوة” المشار إليه ببعديه (السلبي والإيجابي).
وتم تنفيذ هذه الإستراتيجية التي يطلق عليها كتب هذه السطور، استراتيجية “تمساح النيل”، على الركائز الكبرى، وذلك منذ الإعلان عن تشكيل مجلس الأمن الوطني أواخر عام 1968م وصولاً إلى حرب أكتوبر، وذلك على النحو التالي:
1.الرصد والتحليل الدائم والشامل والدقي لجميع النشاطات والتحركات الإسرائيلية على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية: الإعلامية والدعائية، والمعلوماتية، والسياسية، والاقتصادية(المالية-التجارية)، والأمنية- العسكرية، والاستخباراتية؛ وذلك بما يضمن الفهم العميق لدوافع هذه التحركات وتلك الانشطة، واستنباط دلالاتها الإستراتيجية طويلة المدى.
2. الإدراك الواعي لمعطيات البيئة الإستراتيجية الحاضنة لهذه النشاطات والتحركات.
3. التأني والصبر الإستراتيجي، من اجل الاستشراف والتنبؤ بالسيناريوهات المحتملة للتحركات الاسرائيلية ، وصياغة بدائل واقعية ليس فقط للتعامل المضاد الكفء مع تداعيات التحركات المناوئة، بل وإحباطها بشكل استباقي مدهش.
4. الفعل المؤثر والحسم الإستراتيجي وفق التوقيت المناسب، واستناداً إلى دقة التنفيذ لبلوغ الهدف و/أو الأهداف المحددة سلفاً بناء على أولوياتها من المنظور المخطط له استراتيجياً.
5. حسن التمركز الإستراتيجي، استناداً إلى مبدأ التدرج وعدم استباق تطور الأحداث، مع الخفة والسرعة والمباغتة والدقة والقوة في الدفع بالثقل الإستراتيجي.
6. انتهاج سياسة (إطفاء الأضواء)، لضمان سرية التخطيط والتنفيذ للحرب والحيلولة دون أي ضربة اسرائيلية استباقية وتجنب ممارسة اي ضغط على القاهرة أو تدخل من القوى العظمي أنذاك، وذلك على نحو ما تم من خلال خطة الحداع الاستراتيجي التي اتبعتها القيادة المصرية وكثفت منها بشكل رئيسي قبيل نشوب الحرب.
7. اليقظة الدائمة والتقييم المستمر والمراجعة المتواصلة لمكونات هذه الإستراتيجية، في ضوء متغيرات البيئة الإقليمية والدولية آنذاك، لاسيما ما يتصل بالمستجدات في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً وفي الأقاليم المجاورة والعالم على وجه العموم ( ومن ذلك على سبيل المثال: إعلان الوفاق الدولي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق عام 1972م واتجاه القطبين العالميين إلى ترجمة ذلك من خلال فرض حالة من الاسترخاء الاستراتيجي ومنع نشوب مواجهة عسكرية جديدة في المنطقة، وهو ما لم تقبل به مصر وبادرت بالحرب لاستعادة أرضها التي احتلت في 67).
مقصود القول أنه: في تقدير كاتب هذه السطور أن إستراتيجية “تمساح النيل” الفريدة هذه، أثبتت نجاحها الباهر عملياً على النحو الذي ظهر جلياً منذ اللحظات الأولى لحرب أكتوبر، التي شكلت فيها المفاجأة الاستراتيجية العنصر الأكثر حسماً، معلنة فشلاً ذريعاً غير مسبوق للاستخبارات الإسرائيلية، وتفوقاً تاريخياً مميزاً للاستخبارات المصرية، التي كانت- ولا تزال- محل ثقة وطن النيل وأبنائه عن جدارة واستحقاق.
اقرأ أيضًا..
دكتور محمد بدري عيد يكتب .. مصر وتحول القوة.. نصر أكتوبر المجيد نموذجاً (1-6)
دكتور محمد بدري عيد يكتب .. مصر و«تحول القوة».. نصر أكتوبر المجيد نموذجاً (2-6)
دكتور محمد بدري عيد يكتب .. مصر و تحول القوة.. نصر أكتوبر المجيد نموذجاً (3-6)