تثير أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا، العديد من التساؤلات وتدفع لإعادة النظر في قضايا نظرية وعملية ذات صلة بحقل العلاقات الدولية وميدان السياسة العالمية.
ومن أبرز القضايا التى نرى أنها تستحق التوقف أمامها ملياً؛ لما لها من دلالات عميقة لدولنا العربية على الصعيد الاستراتيجي، هي قضية العلاقة بين القوى الدولية العظمى أو الكبرى مع حلفائها من الدول المتوسطة والصغرى، لاسيما في حالة تعرض الأخيرة لتهديدات وجودية تمس استقلالها وسيادتها ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية.
فعلى الرغم من كثافة التحذيرات الاستخباراتية والعسكرية والسياسية الغربية، والامريكية خصوصاً، من الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، منذ شهر ديسمبر الماضي، وتأكيد واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى على دعم كييف ومساندتها بكل ما تستطيع، إلا أن السلوك الغربي على الأرض منذ بداية الغزو الروسي -وحتى الآن- لم يكن على مستوى التوقعات التي عكسها الخطاب السياسي، بل جاء مخيباً لأمال أوكرانيا، التي أعربت عن صدمتها من اقتصار رد الفعل الغربي على مجرد فرض عقوبات جزئية على موسكو، متحسرة على أنها تكابد في الدفاع عن نفسها فيما الدول الحليفة الكبرى لا تزال تنظر إليها من بعيد.
بل إن الموقف الغربي والاميركي كان موضع انتقاد واسع وكبير من بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي “الناتو” نفسه، ووصفت دولاً أعضاء في الحلف موقفه وموقف الإدارة الامريكية إزاء الغزو الروسي لاوكرانيا، بأنه يفتقر إلى الحزم والحسم ويتسم بالميوعة غير المبررة، وأن كل ما تقدمه واشنطن و”الناتو” لكييف لا يتجاوز حد التعاطف والإدانات وإسداء النصائح بما لا تناسب مع علاقات التعاون والتضامن والترابط مع أوكرانيا.
المصلحة والقوة و”الأمومة الاستراتيجية”
تؤكد مجريات الأزمة الأوكرانية، لاسيما منذ بدء الغزو الروسي فجر الخميس 24 فبراير الجاري، صدق مقولات النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، والتي قوامها: القوة، والمصلحة القومية للدول.
كما تؤكد هذه الأزمة الأسس التي تنشأ بموجبها التحالفات على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، بما فيها تلك التي تكون بين القوى الدولية العظمي و/أو الكبرى وغيرها من الدول المتوسطة والصغيرة والصغرى في هيكل النظام الدولي القائم.
إذ تنخرط القوى العظمي- كما هو حال الولايات المتحدة الاميريكية حالياً- وكذلك القوى الكبرى، مثل الترويكا الأوروبية (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا)، في تشكيل تحالفات مع الدول الأقل منها في تراتيبية النظام العالمي، من منطلق المصالح القومية لهؤلاء الكبار ومقدار المكاسب الاستراتيجية التي يرجح أن تحصل عليها سواء في الوقت الراهن أو على المديين المتوسط والبعيد.
ويفترض أن يكون المنظور ذاته هو الحاكم لرؤية وسياسات الحلفاء الأقل في الطرف الآخر، من دون الانخداع بالشعارات الرنانة والمقولات “الفخيمة” التي تطلق القوى العالمية لتغليف مصلحتها القومية بغلاف من “الكريما الاستراتيجية” من قبيل: التعاون الاستراتيجي، والشراكة التي لا تتبدل..ألخ.
ونتيجة لهذه “السذاجة الاستراتيجية”- إن جاز لنا التعبير- يظن الحلفاء “الصغار” أو “الضعفاء”، أن القوى العظمى أو الكبرى ستوفر لهم الحماية الكاملة والفورية في حال التعرض لأي تهديد، ظناً بوجود ما يمكن أن نطلق عليه “الأمومة السياسية أو الاستراتيجية” للقوى الكبرى المتولدة عن وجود مصالح و/أو مكاسب لها لدى هؤلاء الحلفاء، ناسين او ربما غير مدركين أن المصالح تتغير وتتبدل، كما أن المكاسب ذات اوزان نسبية متباينة حسب الزمن، وتبعاً للمعيار الجيواستراتيجي العام المرن وليس مجرد الوضع الاستراتيجي شبه الثابت.
حلفاء نعم.. لكن ليسوا سواءً
لقد أظهرت الأزمة الأوكرانية، أنه لا وجود في حلبة السياسة الدولية لـ”الأمومة السياسية أو الاستراتيجية”، والتي تشير لعلاقة الحماية التي يمكن ان توفرها قوة عالمية كبرى لحليف أو حلفاء يفتقرون لمقومات وقدرات القوة العسكرية الشاملة.
وباستخدام الدارج الشعبي، أثبتت هذه الأزمة مدى سذاجة مقولة “ماما أميركا”.
ويمكن أن نفسر ذلك- جزئياً- بان علاقات التحالف تقوم أساسا ًعلى المصلحة المتبادلة وإن لم تكن متوازنة، بمعني قد يحصل احد أطرف التحالف على مكاسب اكثر قليلا او كثيرا من الاخرين.
واستناداً لعدم التوازن داخل بعض التحالفات، فإن الحلفاء من منظور القوى الكبرى أو المهيمنة، ليس سواءً، وليس متساووين في مدى توفير الحماية او حتى التعاون والتنسيق السياسي والأمني والاستخباراتي والاقتصادي وغيره.
ففي قاموس القوى العظمي والكبرى لا وجود لـ:” كُليش كان” لان هذه الدول تقيس بمقياس المصالح الذي رمانة ميزانه المصلحة و/أو القوة، حيث أن “أبو قرش غير أبو قرشين”.
ووفق ذلك، تصنف القوى العظمى والكبرى حلفائها إلى عدة مستويات أو فئات (أ، وب، وج ..ألخ)، حتى وان لم يعلن عن ذلك، لكنه يكون معلماً ومتداولاً بالضرورة في دوائر الاستخبارات وصنع القرار في العواصم الكبرى.
كما أن مصالح القوة الكبرى تأتي أولا وتاليا وثالثا بل وعاشراً، ثم بعد ذلك يكون النظر في امكانية تحقيق مصالح الحليف حسب تصنيفه واهميته ومدى الحاجة الراهنة أو المستقبلية إليه.
ويمكننا ملاحظة كل ذلك في الحالة الأوكرانية، بدون بذل عظيم جهد.
فمع اقتراب الغزو الروسي وعقب حدوثه، شدد كبار المسئولين السياسيين والعسكريين الأمريكيين على أن الدعم المقدم لاوكرانيا لن يتضمن إرسال قوات أميركية من اي نوع إلى هناك ولا حتي مستشارين عسكريين. وعمدت واشنطن إلى تسريب رسالة بعث بها نواب جمهوريون وديمقراطيون إلى الرئيس جو بايدن، اشترطت حصوله على موافقة الكوزنغرس قبل إرسال اية قوات قتالية إلى أوروبا.
وتهدف الولايات المتحدة من وراء ذلك إلى تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، بسبب الكلفة الكارثية لذلك على المصالح الامريكية القومية.
وقد كان الرئيس جو بايدن- الذي يواجه اختباراً داخلياً هاماً ممثلاً في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر 2022م- أكثر وضوحاً حين صرح لأحد قنوات التلفزة الاميريكية عشية الغزو الروسي، قائلاً إنه اذا تبادل الامريكيون والروس إطلاق النار فإن ذلك يعني حرباً عالمية لا ترغب فيها الولايات المتحدة ولن تكون في صالحها.
ومن ثم، نجد ان “المصلحة الاميركية” كان لها الأولوية على حماية حليف ينتمي لنفس المعسكر الايديولوجي الغربي.
الأمر نفسه عبر عنه وزير القوات المسلحة البريطانية جيمس هيبي الذي صرح بعد ساعات من الاجتياح الروسي لشرق أوكرانيا، إن القوات البريطانية وقوات “الناتو” يجب ألا تلعب دورا نشطا في الصراع الدائر بأوكرانيا بعد الغزو الروسي، وقال هيبي في جلسة طارئة أمام مجلس العموم يوم الجمعة الماضي إنه “يجب علينا جميعا أن نكون واضحين في هذا المجلس إزاء مخاطر سوء التقدير، وكيف يمكن أن يصبح ذلك وجوديا بسرعة كبيرة إذا أخطأ الناس في الحسابات وتصاعدت الأمور بلا ضرورة”، في إشارة واضحة إلى ضرورة عدم المواجهة العسكرية مع روسيا.
كذلك، أبدت دول أوروبية عديدة، في مقدمتها ألمانيا تردداً في اتخاذ قرار بفصل روسيا من نظام “سويفت” المالي العالمي كجزء من حزمة عقوبات أكثر إيلاماً لموسكو.
ويًعزى ذلك إلى حرص برلين على عدم قطع “شعرة معاوية” مع روسيا، حيث توجد معها استثمارات ومشروعات مشتركة في مجال الطاقة والغاز الطبيعي تحديداً، لاسيما خط “نورد ستريم2”.
والامر ذات ينطبق على تركيا، العضو في حلف “الناتو”، حيث رفضت طلب أوكرانيا بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان البحر المتوسط بالبحر الأسود في وجه روسيا بموجب اتفاق 1936.
ومرد ذلك بكل تأكيد هي المصلحة القومية التركية، حيث تتعاون أنقرة مع موسكو في مجالي الدفاع والطاقة، وفي مقدمة ذلك سعى تركيا الحثيث للحصول على المنظومة الصاروخية الروسية المتقدمة “إس-400” وتهديدها لواشنطن بمزيد من التقارب مع موسكو مالم يتم إتمام صفقة بيعها طائرات “إف-35”.
ولذلك، اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الحلفاء الغربيين بما وصفه بـ”ممارسة السياسة في وقت تتقدم فيه القوات الروسية نحو كييف.
حلفاء.. صغار: نعم.. ساذجون: لا
تُظهر الخبرة المعاصرة، أن هناك حلفاء للولايات المتحدة تحديداً من الدول المتوسطة أو الصغيرة، لديها مستوى عالٍ من الوعي الاستراتيجي، بما يجعلها لا تركن كلياً إلى مظلة الحماية الامريكية، لكنها تصوغ استراتيجيتها الوطنية من منطلق تعظيم القدرة الذاتية، بحيث يكون التحالف مع واشنطن مكملاً لهذه القدرة وليس بديلاً عنها او وحيداً بدونها. وترى هذه الدول الحليفة أن الاعتماد التام على الحماية الامريكية لن يجدي نفعاً ما لم يكن هناك قوة ذاتية تشكل الاساس لحفظ الأمن الوطني.
ومن الامثلة البارزة لهذه الفئة من الحلفاء، كل من: اليابان، وكوريا الجنوبية، واستراليا، وجميعها حرص على الاحتفاظ بقدرات نووية دون امتلاك السلاح الذري أي أنها دول “عتبة نووية” أو”كمون نووي”، رغم أنها تتمع بحماية المظلة النووية الأمريكية من خصومها الإقليميين الحاليين والمحتملين.
صفوة القول، أن الدرس الاستراتيجي الأهم الذي يمكن استخلاصه من الأزمة الأوكرانية الحالية، هو: ضرورة امتلاك قوة وقدرة ذاتية وعدم الاكتفاء بالحليف القوي حتى وأن دولة عظمى، لأن هذا الحليف لن يُغامر، بأي حال من الأحوال، بدخول في مواجهة عسكرية أو غير عسكرية مع قوة دولية أو حتى إقليمية، من أجل الحلفاء الأصغر أو الاضعف، لأن المحدد الحاكم للحليف القوي الحامي هو مصالحه القومية.
بل حتى وإن تحرك هذا الحليف الكبير لحماية الحلفاء الأقل فإنه سوف يبتزهم إلى أقصى حد ممكن وربما بشكل غير متوقع أو متصور على الإطلاق.
إذن: القاعدة الذهبية لعلاقة تحالف سوية بين حلفاء صغار أو ضعفاء مع حليف قوي، جوهرها، هو: “قدرتك.. قوتك”.