اتسمت زيارة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إلى إندونيسيا بحفاوة الاستقبال الملكي، بعدما كان في استقباله بمراسم رسمية الجنرال برابوو سوبيانتو، الرئيس الإندونيسي المنتخب، ووزير الدفاع، بالعاصمة الإندونيسية جاكرتا.
استقبال ملكي وحفاوة تاريخية بـ شيخ الأزهر في إندونيسيا
زيارة شيخ الأزهر للمبنى التاريخي لمجلس النواب الإندونيسي
كما التقى “الطيب” بـ بوان ماهاراني، رئيس مجلس النواب الإندونيسي، في المبنى التاريخي لمجلس النواب هنا، معربة عن تقديرها لدعم شيخ الأزهر الدائم لقضايا المرأة وبيان موقف الإسلام الصحيح منها.
وأعربت رئيسة مجلس النواب الإندونيسي عن بالغ سعادتها بهذه الزيارة العزيزة لشيخ الأزهر لإندونيسيا، وتشرف برلمان إندونيسيا بهذه الزيارة، مشيرة إلى أن هذه الزيارة تحمل رسالة من فضيلته لدعم المرأة الأندونيسية، في ظل ما نعانيه من انتشار لفتاوى خاطئة حول تمكين المرأة وتبوأها للمناصب القيادية واتهام الإسلام زورا بأنه دين معاد للمرأة، مضيفة “بصفتي أول امرأة تتولى رئاسة مجلس نواب أكبر دولة إسلامية -إندونيسيا- فإنني أشكر لكم مواقفكم الدائمة التي تؤكد احترام الإسلام للمرأة، وحفاظه على مكانتها، وإعلاءه لمنزلتها كشريكة للرجل وشقيقة له في كل مناحي الحياة”.
وأكدت رئيسة مجلس النواب الإندونيسي ثقة الشعب الإندونيسي في الأزهر الشريف كمنارة علمية ومرجعية دينية وسطية، وأن مواقف الأزهر الرافضة للعدوان على غزة ترجمت ما يشعر به الإندونيسيين من مرارة بالغة، وتطلع الشعب الأندونيسي لمواصلة دور الأزهر في التعريف بمعاناة أهل غزة إلى أن يشاء الله بوقف هذا العدوان الظالم، مؤكدة أن إندونيسيا والأزهر لديهما توجهات مشتركة تسعى لتعزيز القيم الدينية والأخلاقية، ومجابهة الإسلاموفوبيا، وخلق كيانات إسلامية عالمية قادرة على التعريف بقضايا المسلمين والدفاع عنها على المستوى العالمي.
وأكدت رئيسة البرلمان الإندونيسي أن بلادها تبنت نهج التعددية وقبول الآخر وتوفير البيئة المناسبة للتعايش المشترك والاحترام المتبادل، انطلاقًا من إيماننا بأن الاختلاف هو هبة وحكمة من الله تعالى أراده لهذا الكون، موضحة أننا نعتمد على الأزهر الشريف في الحفاظ على الوسطية الإسلامية في بلادنا، وخريجيه وطلابه هم قوة ناعمة تحافظ على بنيتنا الاجتماعية المتماسكة، ولذا فنحن نستثمر في الإندونيسيين الدارسين في الأزهر ولدينا رغبة حقيقة في مضاعفة أعدادهم.
من جهته، أعرب شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين عن سعادته بزيارة البرلمان الأندونيسي، مشيرًا إلى متانة العلاقات المصرية الإندونيسية، حيث كانت مصر أولى الدول التي دعمت واعترفت باستقلال إندونيسيا عام ١٩٤٦، موضحًا أن الأزهر كان أحد أهم عوامل تقوية العلاقات المصرية الإندونيسية، وامتدادها إلى أن أصبح لدينا أكثر من ١٤ ألف طالب إندونيسي، يدرسون في المعاهد والجامعة الأزهريّة، كما يقدم الأزهر ٢٠٠ منحة دراسية، وقد قررنا زيادة أعداد المنح خلال هذه الزيارة تقديرًا للشعب الأندونيسي.
وأكد شيخ الأزهر تقديره للتطور والتقدم الذي تشهده إندونيسيا، جنبًا إلى جنب مع تمسكها بالحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية، مشيرًا إلى أن إندونيسيا تمثل أنموذجًا رائدًا في التعددية والتسامح الديني والسلام المجتمعي المشترك بين الجميع، والاختلاف في إطار الوحدة والحفاظ على استقرار البلاد، مؤكدًا أن وسطية الإسلام هي سر بقائه وتميزه، وهي ما جعلته بعيدًا كل البعد عن التشدد والإفراط والتفريط.
وأكد شيخ الأزهر أن تاريخ إقصاء المرأة وتهميشها من المشاركة في الحياة الاجتماعية، هو تاريخ طويل اعتمد على خلط التقاليد المجتمعية بالأحكام الشرعية، فكانت النتيجة فقهًا متحيزًا أجبر المرأة نفسها على الوقوف ومنعها من التقدم خشية النظرة المجتمعية الخاطئة، مشيرا إلى أنه مع التعليم الصحيح، وبيان أن المرأة ساعدت في بناء المجتمع المسلم جنبا إلى جنب مع الرجل، كل هذا حرر المرأة من المخاوف والهواجس التي لازمتها لفترة طويلة.
واستقبل الدكتور معروف أمين، نائب رئيس جمهورية إندونيسيا، الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، بمقرِّ الرئاسة الإندونيسية؛ لمناقشة سُبُل تعزيز التَّعاون المشترك في مواجهة تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ورحَّب الدكتور معروف أمين بشيخ الأزهر في بلده الثاني إندونيسيا، مؤكدًا أهمية زيارة فضيلة الإمام الأكبر لإندونيسيا؛ لما يحمله الشعب الإندونيسي من وُدٍّ ومحبة لشيخ الأزهر، واحترام كبير للأزهر الشريف، الذي يحظى بثقة الإندونيسيين باعتباره مرجعيتهم الدينيَّة والعلميَّة الأولى، وهو أحد أبرز العناصر المهمة التي شكَّلت العلاقة بين مصر وإندونيسيا، مشيرًا لسعي بلاده لرفع مستوى العلاقات العلمية مع الأزهر من خلال إنشاء مكتب تطوير تعليم الطلَّاب الوافدين في إندونيسيا، لتأهيل الطلاب الإندونيسيين قبل سفرهم للالتحاق بالدراسة بجامعة الأزهر، مؤكدًا أن إندونيسيا تُولي اهتمامًا كبيرًا بطلابها الأزاهرة باعتبارهم نواةً لعلماء المستقبل وقادة المجتمع.
وأعرب نائب الرئيس الإندونيسي عن تقديره للجهود المبذولة في تنسيق التعاون بين بيت الزكاة والصدقات المصري -الذراع الخيري للأزهر- وبين هيئة الزكاة والصدقات الإندونيسية، خاصة فيما يتعلَّق بتجهيز قوافل المساعدات الإنسانية ومستلزمات الإغاثة وتسييرها إلى قطاع غزة، مؤكدًا موقف إندونيسيا الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما ترجمته من خلال التعريف بما يتعرَّض له الفلسطينيون في غزة من قمعٍ وتهجيرٍ وظلمٍ وقتلٍ ومجازرَ وعرضها في مختلف المحافل الدولية.
وأكَّد نائب رئيس إندونيسيا ضرورة مواصلة العمل مع الأزهر ومجلس حكماء المسلمين لبيان الصورة الصحيحة للدين الإسلامي عالميًّا، خاصةً في هذا الوقت الذي يُتَّهم فيه الإسلام زورًا بأنه دين يدعو إلى العنف والتطرف، والتعريف بوسطيته وسماحته، وبيان حقيقته للشباب الغربي، وتفنيد الادعاءات الكاذبة عنه، مؤكدًا خطورة تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدول الغربية، وما يشكِّله ذلك من تهديدٍ على أمن الجاليات المسلمة واستقرارها.
من جانبه، أكَّد فضيلة الإمام الأكبر سعي الأزهر الدائم للتعريف بوسطية الإسلام؛ حيث عقد الأزهر ومجلس حكماء المسلمين جولاتٍ للحوار بين الشرق والغرب ومؤتمرات عالمية عن مكانة المرأة في الإسلام، ومؤتمرات أخرى تدعو إلى تفعيل استخدام مصطلح “المواطنة” بدلًا عن “الأقليات” وما يحمله ذلك من تمكين ومساواة بين الجميع، دون نظرٍ إلى دينٍ أو عرقٍ أو جنسٍ أو لونٍ، كما قدَّمَ الأزهر مفهوم الاندماج الإيجابي بين جميع المواطنين في البلد الواحد، واستدللنا بالدولة الإسلامية الأولى التي أسَّسها نبي الرحمة، وكيف آخى بين المهاجرين والأنصار، كما وضع أول وثيقةٍ تضمن حقوق الجميع وهي “وثيقة المدينة”، لتشكِّل هذه الوثيقة موقفًا إسلاميًّا خالصًا في طبيعة العلاقة بين المسلم وغير المسلم، وهي العلاقة المبنية على الاحترام والود والتعايش والاندماج.
وأكَّد شيخ الأزهر أنَّ العالم الإسلامي يَفتقدُ إلى تنسيق الجهود فيما بين دُولِه ومؤسساته، والخروج بصوت إسلامي موحَّد ومعبِّر عن تحدياته وأزماته، يشترك فيه صناع القرار السياسي وعلماء الدين والمفكرون، محذرًا من أنَّ الجهود المبذولة مهما بلغت حجمها فإنها لن تكون مؤثرة إلا إذا دفعت برغبة حقيقيَّة في التغيير، ولن يتأتَّى ذلك إلا بالتعاون والتنسيق الكامل بين الجميع، وأنَّ إقصاء طرف لم ينتج عنه إلا مزيد من التَّشتت والفرقة، وفقدان بوصلة العودة بعالمنا الإسلامي إلى مسار التقدُّم والازدهار.
وقال الدكتور أحمد الطيب، خلال كلمته بإندونيسيا حول “حوار الأديان والحضارات”: “هَلْ مِنْ أمَلٍ في أن يُخفِّفَ الغَرْبُ مِن غلوائِه وكبريائِه، ويَتخفَّفَ الشرقُ مِن هواجِسِه وسُوءِ ظُنونِه؛ ليلْتقيَ كلٌّ منهما بالآخَرِ في مُنتصَفِ الطريقِ لقاءَ تعارُفٍ ومودَّةٍ، وتبادُلِ خِبراتٍ ومَنافِعَ، وتعاونٍ حقيقيٍّ من أجلِ سلامٍ دائمٍ وحضارةٍ آمنةٍ؟”.
وأضاف الدكتور أحمد الطيب، أن الإسلامَ الذي أنتمي إليه وأعتنقُه دِينًا، يهدِي إلى الحقِّ وإلى صِراطٍ مستقيمٍ، قد كُتِبَ عليه في الحِقْبَةِ الأخيرةِ أن يُوضَعَ في قفصِ اتهامٍ جائرٍ ظالمٍ، وأُرِيدَ لمعتنقِيه والمؤمنينَ به أن يظلُّوا في موقفِ الدفاعِ وردِّ الفعلِ وصدِّ الهجومِ، وأن يستنفذوا في هذا الاتهامِ الزائفِ جهدَهم وطاقاتِهم وأموالَهم.. والذي أعتقدُه هو أنَّنا إذا كُنَّا جادِّينَ في إقامةِ حِوارٍ مُثمِرٍ، فإنَّ الإسلامَ ليس هو الدِّينَ الذي عليه أن يُثبِتَ أنَّه دِينُ حوارِ، وأنه دينُ تكاملِ الحضاراتِ، وتلاقُحِ الثقافاتِ واحترامِ الآخرِينَ، فهذه الحقائقُ وعشراتٌ أمثالُها يعرِفُها لهذا الدِّينِ مَن يؤمِنُ بِهِ ومَن لا يؤمِنُ به على سواءٍ.
وتابع: “لم يَحدُث قطُّ أن قاتَلَ المسلمون غيرَهم لإجبارِهم على الدُّخولِ في دِينِ الإسلامِ؛ لأنَّ الإسلامَ لا يَنظُرُ لغيرِ المسلمين مِن منظورِ العَداءِ والتوجُّسِ والصِّراعِ، بل مِن منظورِ المودَّةِ والأخوَّةِ الإنسانيَّةِ، وهناك آياتٌ صريحةٌ في القرآنِ -لا يَتَّسِعُ لذكرِها المَقامُ- تَنُصُّ على أنَّ علاقةَ المسلمين بغيرِهم مِن المسالِمين لهم -أيًّا كانت أديانُهم أو مذاهبُهم- هي عَلاقةُ المودَّةِ والبِرِّ والإنصافِ”.
واستكمل: “جاء القرآنُ ليؤكِّدَ أن محمدًا ﷺ شقيقُ موسى وعيسى ومَن قَبْلَهما مِن الأنبياءِ والمرسلين، وأنَّ القرآنَ مصدِّقٌ للإنجيلِ، وأنَّ الإنجيلَ مصدقٌ للتوراةِ، وأنَّ دعواتِ الرُّسُلِ جميعًا اجتمعتْ كلمتُها على أصولٍ عامَّةٍ مشتركةٍ لا يختلفُ فيها نبيٌّ عن نبيٍّ، ولا رسالةٌ عن رسالةٍ، وفي مقدِّمةِ هذه الأصولِ: الدعوةُ إلى توحيدِ اللهِ، وفضائلِ الأخلاقِ، وتحريمُ الإثمِ والظُّلمِ والبغيِ والعدوان على الناس”.
وأضاف: “أزعُمُ أنَّ شُعورَ الكراهِيَةِ الكاسِحَ للنظامِ العالميِّ الجديد ليس وَقْفًا على المسلمينَ والشرْقِيين؛ بل هو شُعورٌ مُشْتَركٌ بينهم وبينَ تيارٍ عَريضٍ مِن حُكماءِ الغربِ ومن أبنائه وشبابه، وهذا ما ظهر لنا جليًّا في وقوف طلاب الجامعات في الغرب مع الشعب الفلسطيني المظلوم في غزة، ومِمَّا يدلُّ أبلغ دلالة على أنَّ نَوازِع الخير وفكرة الخُلُق الإنساني لا تَزالُ على فِطرتِها ومبدئِها الإنسانيِّ الخالِصِ، ولم تتشَوَّهْ بعدُ بأخلاق القوَّةِ والمصلَحةِ والغَرَضِ، وفَلسفاتِ الغايةِ التي تُبرِّرُ الوسيلةَ، أيًّا كان قُبْحُ هذه الوسيلةِ وسُقوطُها في حِسابِ الفضيلةِ ومَوازينِ الأخلاقِ”.